icon
التغطية الحية

بوط كعب عالٍ" أو ثلاثة مسائل حول الرداءة الفنيّة

2020.12.28 | 17:45 دمشق

47787.jpg
باريس - عمّار المأمون
+A
حجم الخط
-A

​أشار مقال منشور مؤخراً إلى الفيلم السوري "بوط كعب عالٍ" بوصفه "مهزلة وطنيّة"، الفيلم المنشور على يوتيوب مؤخراً شاهده نحو مليون و700 ألف شخص حتى الآن، وهو من إخراج نضال عبيد، وإنتاج شركة جودي مطر الخاصة، ويجدر بالذكر أنَّ عبيد له مسلسل أثار ردود أفعال متفاوتة بعنوان "بوشنكي"، والذي لن نخوض به لكن يمكن أن ينسحب عليه المصطلح السابق. 

مهزلة وطنيّة لا تفي الفيلم حقه، بل تعطيه قيمة أكبر مما يمتلك، إذ يشرح المقال هذا المصطلح بالتالي: "مهزلة باعتباره أحطّ أصناف الكوميديا، ووطنية لكونه «مأثرة» في حب الوطن. ولو أن ذلك لا يلغي أنها أحطّ أصناف الوطنية، لأنها تستخدم البوط العسكري مدخلاً وحيداً للوقوع في غرام الوطن". 

الإشكالية أن الكتابة كوسيط عاجزة عن التقاط ملامح الرداءة بدقة، هناك هالة تحيط بهكذا منتجات، يشعر من يحاول انتقادها أو الإشارة لها بالفقر المعجمي -على الأقل أنا-، سواء استخدمت الأوصاف في سياق جدّي أو ساخر، فمعجم التقييمات الجمالية أو "كلمات الشغف" حسب تعبير  ستانلي كافل واسع: " جميل، قبيح، بشع، مستهلك، مكرر، منحط، مثير للاهتمام، ساحر، لمّاح...الخ" لكنه يواجه مشكلة في وصف هكذا فيلم، يتنكر فيه "مواطنان" متخلفان عن خدمة العلم الإلزاميّة بزي فتيات يسكن المدينة الجامعية، وإثر سلسلة من المفارقات ومواجهة مع "الدواعش" تنكشف حقيقتهما، وينتهي بهما الأمر في الخدمة الإلزامية فخوران بخدمة الوطن، الذي تلتهم الخدمة العسكرية رجاله، ولا توفر أحداً منهم حتى الممثل" يزن السيد" حسب أحد المشاهد. 

هناك مليون و700 ألف شخص شاهد الفيلم حسب يوتيوب، وإن تتبعنا التعليقات، نجد أن هناك من أطرى وأشاد بالفيلم وإضحاكه، لا نعلم مدى "واقعيّة" هذه التعليقات، لكنها موجودة، حتى الصحف التي كتبت عن الفيلم وجدت فيه مغامرة لكنه "لا يؤسس لمعيار"، بل محاولة لإنعاش السينما التجارية وسينما القطاع الخاص. 

بالعودة لألفاظ الشغف، نقرأ في تعريفها أنها لا تتطلب موافقة السامع أو رفضه من أجل أن تكون فعّالة، وحين يطلقها أحدهم، فهو يمتلك متخيّلاً مسبقاً عن معناها، تعريفاً وشكلاً يعرفه هو داخلاً، هذا التخيل موجود أيضاً لدى من يقود العملية الفنيّة، وعادة هذه الألفاظ التي نطلق عبرها حكماً على ما نراه، هذا التخيل الذي يعرف الكلمة يعمل عبر عدة نماذج، إما نستدعي تاريخ الفن العالمي ونحاول تصنيف المنتج ضمنه، أو نستدعي تاريخ الفن السوري لنقارن ونقيّم، أو نوظف تجربة صانع العمل الفني نفسه، أو الذوق الشخصي. 

 بالعودة إلى عبارة "مهزلة وطنيّة"، سنحاول الاستطراد في فهم هذا المصطلح، لفهم الرداءة بوصفها حكماً جمالياً، ونتاج شروط ثقافية وسياسية، تبيح ظهورها، وتوضح حين الموقف المتخذ حين نطلق هذا الحكم على عمل من نوع "بوط كعب عال". 

الهزل العقيم  

نستعير تعبير الهزل العقيم من ميخائيل باختين، الذي يرى أن الهزل بأشد أِشكاله بذاءة ودونيّة، يمتلك طاقة مولّدة، كل السباب والسوائل المتناثرة والإحالات الخفيّة للأعضاء النائمة والمنتصبة تثير الضحك الرخيص والقهقهة، لكن نقدية هذا الضحك أو قدرته التوليديّة،  تظهر في عداوته للسلطة، ونزع الجدية عنها، وإمكانية جعلها محط "الضحك" لكسر هالتها، و يُقصَد هنا السلطة الدينية والسياسيّة، التي يستهدف الضحك طقوسها ورموزها، أي هو ضحك موجه على "الأصدقاء" لا "الأعداء"، وفي الفيلم السابق الذكر الإضحاك لا يمسّ السلطة بأشكالها، مع العلم أن السخرية من الجندي في جيش النظام تظهر بداية، لكن لا استهداف واضح أو محاكاة بذيئة لهذه "المؤسسة"، خصوصاً أن هناك فصلاً بين الحكومة والنظام في سوريا، هذا الفصل الذي كان يبيح شتم الحكومة دون النظام أصبح أوضح الآن، إذ تتحرك الإحالات الجنسية والشتائم بين "المتشابهين" أي المواطنين، الذين يمكن للجندي شتمهم دون أن يشتموه، وهنا يظهر العقم، لا تنقلب الأدوار ولا يتم تبادلها، حتى ضمن لعبة التنكر، لا انتهاك للمؤسسة العسكرية التي انضم إليها نهاية بطلي المسلسل بل احتفاء مطلق بها بوصفها طريقَ الخلاص الذاتي والوطني. 

الميلو دراميّة والفرد المسحوق 

تختزن الصيغة الميلو درامية والمبالغة في العواطف حكاية وطنيّة، كونها تركز على هزيمة الفرد أمام العالم، وعجز الأخير عن التغيير، ليكون "ضحية أبديّة" لا فكاك أمامه مما يحدث، أي محاولة للتغير أو زعزعة الهوية أو الأدوار المرسومة مسبقاً تنتهي بالفشل، كحالة لعبة التنكر التي نشاهدها في الفيلم، والتي لا تفضح سوى ذكورية و"محن" الفئة التي تظهر في الفيلم، فمحاولة بطلي الفيلم إعادة إنتاج ذاتهما كـ"نساء" من أجل الفكاك من الخدمة العسكرية الإلزاميّة، باءت بالفشل أولا بسبب المواجهة مع "الدواعش" العدو الموحد لكل المطيعين في سوريا، وثانياً بسبب المؤسسة العسكريّة ودورها الجوهري في الحفاظ على الحياة، لكن هذا الفشل في تغيير الذات لا يعني فقدان الأمل بالعالم، بل فقدان الأمل في رغبة الذات أمام الواجب الأكبر، الذي يظهر في انضواء البطلين تحت سلطة "المؤسسة العسكرية"، التي تمحي الفرد أو قدرته على "التفرد" ليكون جزءاً من أدلوجيتها والشكل التي رسمته للأفراد الموحد للأفراد، حيث تتطابق الثياب واللهجات ويصبح الهدف واحداً. 

إهمال الهامش من قبل المؤسسة الأكاديميّة والتعالي عليه 

الخصوصية في الحالة السورية هي إهمال ما هو تجاري وترفيهي، سواء عمداً لأسباب سياسيّة ورقابيّة، أو بسبب سلطة الذوق الجمالي التي تمارس في الأكاديميّة الرسمية المتمثلة بالمعد العالي للفنون المسرحيّة، هذا الإهمال والنفي، ترك هذه الاشكال من الهزل تنحصر في القالب العقيم، بالرغم من اشتغال "نجوم" فيها، لكن عدم الاعتراف بـ"قيمتها" وعدم النظر فيها، لم يسمح بتطورها لاعتبار كلمات كـ"شعبيّة" و"تجاريّة" بمثابة السباب كونها لا تتفق مع "الذوق الراقي" الذي يحكم الأكاديميّة الرسميّة، يستثنى مثال همام حوت ،الذي كان لحضور الأسد الابن لإحدى مسرحياته شرعنة لوجوده السياسي لا الجمالي، لأنه كما يقال "رفع سقف النقد"، ولو بمقدار ضئيل.