بن لادن في اللاذقية

2020.02.02 | 23:02 دمشق

asamt_bn_ladn.jpg
+A
حجم الخط
-A

أثناء انتقال عائلتها من جبال تورا بورا إلى قندهار ولدت رقية، ابنة زعيم القاعدة، عام 1997. غير أن ذاكرتها لن تحفظ مشاهد واضحة إلا بعد سنوات، عند دخولها المدرسة الابتدائية في حي الزراعة بمدينة اللاذقية.

كان أول فرد من آل بن لادن يزور الساحل السوري هو مؤسس العائلة نفسه، المقاول السعودي محمد الذي اشتهر - فضلاً عن نجاحه الباهر في عالم تعهدات البناء والطرق - بولعه بالنساء. كان في قرابة الخمسين عندما حط في اللاذقية، عام 1956، ضمن سفريات عديدة أجراها خارج بلاده لشراء المواد الخام والتعاقد مع شركات منفذة من الباطن. وكان من دواعي سروره أن تضاف إلى حصيلة رحلته زوجة لم تتم الرابعة عشرة من عمرها، هي علياء غانم، بعد أن اتفق على ذلك مع شقيقها إبراهيم الذي كان ينجز له بعض الأعمال.

علياء غانم - الغارديان_0.jpg
علياء غانم (الغارديان)

تنحدر الفتاة من قرية جبريون العلوية، غير أن هذا لم يعنِ شيئاً، في ما يبدو، للكهل كثير الانشغالات وصاحب البلاط الكبير من الحريم اللواتي تجاوز عددهن العشرين من الزوجات والزوجات السابقات حين قتل بحادث طائرة مفاجئ بعد حوالي عقد.

قبل ذلك سينجب من علياء ابناً وحيداً هو أسامة، قبل أن تطلب الطلاق فيمنحها إياه بسهولة ويدبّر أمر زواجها من أحد موظفيه المتوسطين الدمثين كي لا تغادر البلاد التي أصبحت وطنها منذ ذلك الوقت.

دأبت المرأة على زيارة ذويها صيف كل عام، مصطحبة بكرها اللادني الذي أحبها بشغف سيستمر طيلة حياته، وإخوته من الزوج الجديد. في هذه الرحلات سيستمتع أسامة بالاحتفاء به في بيت خاله إبراهيم، وبصحبة ولده ناجي، الذي يساويه في العمر، في أحراج الريف وعلى البحر، ثم بقصة الحب الصامتة التي ربطته بابنة هذا الخال، نجوى.

ناجي غانم.jpg
ناجي غانم

كان أسامة متديناً منذ صغره، وورث عن أبيه ثروة خيالية، فلم يكن هناك ما يمنع من إتمام الزواج الذي جمع شاباً في السابعة عشرة ويافعة في الخامسة عشرة، عام 1974، وعيشهما في كنف الأم في جدة، حتى يتم الشاب تعليمه الذي كان يواظب عليه يومياً في المدرسة الثانوية.

ستمضي السنوات الأولى بسعادة، كما تروي نجوى التي استجابت بحب لشروط زوجها وتأقلمت مع نزعته المحافظة وأخذت تنجب له الأولاد، حتى الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979 وتصاعد حماس أبي عبد الله لإخوانه المسلمين هناك، جمعاً للتبرعات، ثم زيارات أخذت تطول بالتدريج إلى ذلك البلد البعيد، فمشاركة فعلية في القتال فيه!

كان ذلك يرسم مستقبل الأسرة دون أن تدري. انسحب السوفييت أمام ضربات المجاهدين الذين حازوا شعبية عالية في العالم الإسلامي، وفي السعودية على وجه الخصوص، حيث تمثلت نجوميتهم في أسامة الذي لم يأبه كثيراً لذلك، وقرر متابعة أعماله ضمن الشركة الناجحة للعائلة، قبل أن يفاجئ الرئيس العراقي صدام حسين المنطقة، عام 1991، بغزو الكويت وتهديد السعودية.

سمحت الروابط العريقة بين العائلتين لأسامة أن يطرح على الملك أن يتولى التصدي للغزو المحتمل، مستعيناً بآلاف المتطوعين الذين ما زالت قلوبهم معلقة بالقتال رغم انتهاء تجربتهم كأفغان عرب. غير أن آل سعود لم يقتنعوا بمثل هذا الخيار الغريب، وطالبوا القوات الأميركية بالتدخل لحمايتهم، فكان الشقاق الذي سيكلّف أسامة الهروب من وطنه إلى السودان، حيث حاول تشكيل مجتمع جهادي صغير بأذرع عملياتية خارجية، مما أدى أيضاً إلى إبعاده من هناك. وفي عام 1996 عاد إلى أفغانستان من جديد، على رأس قافلة من ثلاث زوجات وأربعة عشر ولداً وبضع عشرات من الرجال المسلحين.

طيلة المدة السابقة لم تعارض نجوى بعلها في شيء، حتى في زيجاته التي تمت واحدة منهن باختيارها وترتيبها. لقد أحبته ووثقت به وانتمت إليه وأطاعته وفعلت كل ما في وسعها لإرضائه. وقبل أن يمتلئ البيت في جدة بالنساء والأولاد والخادمات، أمضت وقتها في حفظ القرآن وقراءة الكتب الدينية والصلاة لتطابق النموذج الورع الذي يحبه. وكما فعلت دوماً، ها هي تتبعه الآن بصمت وهو يقود أسرته الممتدة للسكن في بيوت حجرية بدائية في هذه الجبال الوعرة استجابة لمشروعه الجهادي الذي لم تنخرط فيه ولم تُدعَ إليه أصلاً. إذ كان عليها فقط أن تعتني بتربية الأولاد، جميعهم سواسية، بالتعاون مع «أخواتها» من الزوجات.

غير أن شيئاً من هذا سيتغير مع بلوغ ابنها الرابع والمفضّل سن الشباب. كان عمر، الذي أخذ بالتباعد عن طريق والده، قد سمع من أحد رجال الحاشية القاعدية عن التحضير لعمل كبير جداً ستكون عواقبه مزلزلة. لم يشأ الشاب أن يموت في سبيل خيارات بات يراها مجنونة باطراد، وخشي على أمه وأشقائه، فعمل على النجاة بنفسه وعلى إخراجهم.

عمر بن لادن.jpg
عمر بن لادن

في البداية وافق «الشيخ» على السماح لزوجته الأربعينية بالسفر إلى سورية لتضع حملها الحادي عشر هناك في ظروف صحية أفضل من تلك المتاحة في قندهار، ولتقابل أهلها بعد انقطاع السنوات المضطربة السابقة. ولما استنتج، بأمل خائب، أن عمر لن يعود؛ وافق مجدداً على سفرها بصحبة ابنتيهما الأخيرتين، الطفلة رقية والوليدة نور، وابنهما الثاني عبد الرحمن وكان في الثالثة والعشرين. إثر رحلة مرهقة ستصل الجماعة الصغيرة من آل بن لادن إلى اللاذقية. ولن تمضي إلا أياماً قليلة حتى تعرف الحدث الذي فرّت منه؛ إنه هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.

عبد الرحمن بن لادن.jpg
عبد الرحمن بدن لادن

رغم أن أسامة سيعيش عشر سنوات أخرى إلا أن أحداً ممن سافروا لن يراه ثانية، مع الحرب الأميركية القاسية التي حطّمت جسم التنظيم ودفعت بعض قادته وعائلاتهم إلى الانسياح نحو إيران التي احتجزتهم لسنوات، بمن فيهم بعض آل بن لادن، مثل بكر (المعروف في الأسرة باسم لادن) حتى الإفراج عنه، وإيمان التي استطاعت الهروب. وقد التحق الاثنان بوالدتهما في اللاذقية عام 2010 الذي كان آخر سنوات الأسرة هناك، قبل أن تغادر إلى السعودية وقطر بحثاً عن حياة أكثر استقراراً.

في أحد أوقات الاسترخاء النادرة روى أسامة لابنه عمر حادثة جرت عندما كان في اللاذقية مع والدته، وقاد بهم زوجها ببطء أثار حفيظة سائق إحدى الحافلات الذي سارع إلى الشجار مع هذا الكهل الهادئ ودفعه، حتى اضطرت علياء إلى القفز خارج السيارة وصفع الرجل الوقح وتسجيل رقم حافلته لإعطائه لابنها، الأخ غير الشقيق لأسامة، وكان على علاقة ببعض آل الأسد، وما هي إلا ساعات حتى كان السائق موقوفاً.

في مدينة كاللاذقية يستحيل أن تكون بارزاً دون أن تحتك مع أحد من آل الأسد، في الأعمال أو المطاعم أو جوار السكن أو زمالة الدراسة. يفضّل أفراد نادي النخبة في المدينة، أو مَن يضطرون إلى عبوره، أن يأخذ هذا الاحتكاك شكل «صداقة» مع هذا أو ذاك من أبناء العائلة الشرسة التي برزت سطوتها منذ استتباب السلطة لحافظ وشقيقه رفعت في السبعينات. ولم يمر سكن نجوى غانم وبعض أولادها هناك دون مباركة بشار الأسد، خاصة أن الأم فقط من يحمل وثائق سورية، فيما تخلو جعبة أبنائها من مستندات رسمية تثبت شخصياتهم، مما يعيق تنقلهم ودراستهم ما لم يحظوا بتغطية عليا. غير أن هذا لم يكن كافياً في العالم اليومي للاذقية، حيث رغب عبد الرحمن في استئناف هوايته الموروثة في اقتناء الخيول وركوبها، بعد أن أخذ المصروف السخي يصل من أعمامه الذين حاول أحدهم، حسن، الاستثمار في شاطئ أفاميا فوقع فريسة لكمال الأسد، رئيس غرفة تجارة وصناعة اللاذقية، فيما صار عبد الرحمن زبوناً دسماً حسن النية لهلال الأسد، رئيس الجمعية السورية للخيول العربية الأصيلة. كما تعرّف الشاب إلى رفاق ونصّابين آخرين من العائلة وسواها من أبناء الكنى المتنفذة، وعاملين في أجهزة الأمن. أما الطفلتان، رقية ونور، فدرستا في ابتدائية «سليمان العجي»، جنباً إلى جنب مع الأجيال الناشئة من آل الأسد وغيرهم من نخب السلطة والمال في حيّي الزراعة والأوقاف، كان منهم حيدرة وفاطمة وزينب، أولاد جميل الأسد من زوجته الأخيرة آمال نعمان.

لم يحدث هذا بتخطيط من أحد. ولم يعلم به أمير الجهاد المتواري في مخبئه بباكستان مع زوجته الجديدة الشابة، أمل السادة، تنجب له أطفالاً آخرين، سيُقتل لاحقاً ويتركهم للمجهول.