icon
التغطية الحية

بناها أفلاطون قبل الفارابي: من أين جاءت فكرة "المدينة الفاضلة"؟

2023.05.15 | 10:28 دمشق

أفلاطون
+A
حجم الخط
-A

لا يكاد أحد لم يسمع ولو بصورة عابرة بعبارة (المدينة الفاضلة). والمعنى الشائع العموميّ لهذه العبارة أنها مدينة مثالية من الأخلاق والعلم والروحانيات، وتنتفي فيها الشرور والآثام والجرائم ولا فساد ولا ظلم فيها ولا قتل ولا عدوان.

يلتصق المعنى بتعبير آخر لا بدّ منه هو أن هذه المدينة الفاضلة (طوباوية). وهو لفظ مشتقّ عربيا من (طوبى)، لكنه في الأصل يعود إلى كلمة يونانية هي  u-topos التي تعني (ليس في أي مكان) أي أنه مكانٌ في لا مكان، بمعنى استحالة تحقيق هذا الشيء واقعيا، إنه خيال الإنسان الحالم بتحقيق مكانٍ تحلّ فيه مشاكله جميعا ومن أي نوع كانت، مكان يشبه الجنة نفسها. ربما ليس غريبا أن معجم الخطاب الإنجيلي يستعمل دائما كلمى (طوبى)، مثلا: طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ ـ طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ ـ طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض...الخ مما جاء في الإنجيل بما يعرف (التطويبات التسع).

وفي الخطاب الإسلامي ترد كلمة طوبى بالمعنى ذاته مثل الحديث النبوي الذي في "طوبى للغرباء".

وفي القرآن ((الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب)) (سورة الرعد 29) وهي المرة اليتيمة التي ذكرت فيها الكلمة في القرآن. وقد فسرت على أنها شجرة في الجنة. أي أن الخطاب الدينيّ وظّف دلالة الكلمة لتشير إلى (الجنة) باختصار. وهي المكان الذي يكون مكافأة للمؤمنين الصابرين الأنقياء...

تأثرت الثقافات الدينية بالمعنى الافتراضي للكلمة فصوّرت المدينة الفاضلة على أنها فردوس أو جنةٌ يعيش فيها الناس في نهاية المطاف ليتلذّذوا بالسعادة الأبدية ويحققوا الحلم المستحيل.

وفي الإرث الفلسفي البشريّ هناك يكمن أصل المعنى الأساسي للكلمة، لأن الفلسفة في مهدها اليونانيّ كانت منهمكة إلى درجة كبيرة بتقديم تصور شامل حول مجتمعٍ بشريّ كل ما فيه يكون في خدمة الإنسان ورفاهيته وسعادته، على أن كل ذلك يكون متحققا في الأرض وليس في الماورائيات. لكن نظرا للوضع المثالي الذي تمّ التفكير به من أجل تحقيق هذا المجتمع السعيد، ونظرا لأنه وضع يصطدم بالشروط البشرية المعقدة للإنسان العاجز عن التخلص نهائيا من نزواته ورغباته المتناقصة مع المثالية والطهرانية، نظرا لكل ذلك ظهرت المدينة الفاضلة وكأنها بالفعل مدينة مبنيّة على لا مكان محدد. أي أن وجودها هو في اللاوجود. وظلت أقرب للحلم البشري المشروع وليس من الضروري تحقيق هذا الحلم بحذافيره، لكنه حلم مصمّم ليكون هاديا للإنسان في حياته ودافعا له لكي يحقق أكبر قدر ممكن منه. إنه الهدف العالي السامي الذي يناضل البشر للوصول إليه منذ ولادتهم وحتى مماتهم، ولكلٍّ نصيبٌ قليلٌ أو كثيرٌ من الحصول على السعادة والرفاهية، أي لكلّ منهم حصّة من المدينة الفاضلة المفترضة.

وقد تأثرت الثقافات الدينية بالمعنى الافتراضي للكلمة فصوّرت المدينة الفاضلة على أنها فردوس أو جنةٌ يعيش فيها الناس في نهاية المطاف ليتلذّذوا بالسعادة الأبدية ويحققوا الحلم المستحيل.

لكن يبقى للفلسفة النصيب الأكبر من الاشتغال بمفهوم المدينة الفاضلة. فأفلاطون شيخ الفلاسفة، عبر عن رؤيته لهذه المدينة بكتابه (الجمهورية) المعروف بجمهورية أفلاطون. وهو من المؤكد يشكل البناء الأول لهذه المدينة عبر التاريخ. لكن الباحثين في موضوع أفلاطون يلاحظون أنه كتب جمهوريته بعد هزيمة أثينا على يد إسبرطة، وكانت أثينا رمزا للفلسفة والسلام والحريات والقانون، بعكس تسلّط إسبرطة وقوتها التي دحرت أثينا. وكانت أفكار جمهورية أفلاطون متأثرة بالدولة الإسبرطية القوية، وكأن أفلاطون انطلق من إعجاب المهزوم بالمنتصر القويّ واعتبره نموذجا يحتذى في المستقبل. وربما من هنا كانت فكرة الاستغناء عن الشعراء لدى أفلاطون، أو الاستغناء عن نفرٍ واسع منهم رأى أنهم لا يفيدون في بناء مدينته الفاضلة!

وظلت جمهورية أفلاطون هي الفرضية الفلسفية المنتشرة في أرجاء المعمورة حتى جاءت الثقافة الإسلامية والعربية لترجمة فلسفة اليونان ومنطق أرسطو وحواريات أفلاطون، ومن هنا بدأ الفارابي الفيلسوف الشهير بوضع كتاب أراد له أن يكون خطة عمل لمدينته الفاضلة والتي دون شكّ كان واقعا تحت تأثير اليونان وفلسفتهم. وقد ذكر الكاتب التراثيّ ابن أبي أصيبعة صاحب كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) أن الفارابي بدأ منذ كان يعيش في بغداد بوضع كتابه (المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلة والمدينة الفاسقة والمدينة المبدلة والمدينة الضالة) ثم حمل الكتاب معه إلى الشام وهناك أكمله.

كتاب الفارابي تُرجم للألمانية على يد المستشرق الألماني فريدريك  ديتريسي عام 1895 (وهو الذي ترجم نماذج من الشعر العربي للألمانية أيضا) ومنه تعرف الأوربيون على فلسفة الفارابي التي لم تكن إلا مزيجا بين العقيدة الإسلامية مطّعمة بأفكارٍ تأثر بها من فلسفة اليونان وغير اليونان، فالفارابي في الأصل ليس عربيا، وهو يعرف عدة لغات وثقافات شرقية لا شكّ أنها كانت حاضرة في باله وهو بصدد بناء مدينته الفاضلة التي كانت صورة توفيقية بين الرؤى الفلسفية والعقيدية إلى حدّ لا يتضارب فيه الطرفان. لكن يحسب للفارابي سعة ثقافته ووعيه الفلسفي للقضية التي يطرحها، ومع أن البعض أخذ على لغته العربية بعض الصعوبة والإبهام، فلأنه ـ إضافة لكونه غير عربي ـ يتحدث في شأن فلسفي محض ولا يمكن أن يكون في متناول عموم الناس، لا سيما في عصر الفارابي.

لكن من أين أتى الفلاسفة بفكرة المدينة الفاضلة هذه؟ إذا اعتمدنا على أن الأحلام هي تعبير عن نزوع الإنسان نحو حياة بديلة، فإننا نكون على أول الطريق في تفسير أسباب فكرة المديمة الفاضلة. فالإنسان الذي يعاني في حياته من الظلم والنقص في أسباب السعادة سوف يبدأ تلقائيا برسم عالم متخيل يحلم به كنوعٍ من التعويض والدفاع عن النفس بطريقة الحلم. وقد يرى البعض أن بناء تصور المدينة الفاضلة لا يتمّ إلا في مجتمعات مستلبة مقهورة محرومة من المتعة والسعادة والحريات، ربما كان في ذلك شيء من المعقولية ولكنها معقولية نسبية، لأن الدافع السيكولوجي الأساسي للمدينة الفاضلة هو تخيل فردوسٍ بديل يحمل من اللامتوقع الشيء الكثير، أو يحمل ما لا عين رأت ولا أذن سمعتْ. لكن ليس من الضروريّ أن يتحقق هذا الخيال أو الحلم، لأن الحلم ممارسة إنسانية لا تكفّ عن الحضور في أي ظرف وشرط بشريّ. أي أن الإنسان لا يبني مدينة فاضلة لكي تتحقق حرفيا على وجه الأرض، فالأحلام دائما ما يعترضها استحالة أن تتحول إلى واقع ملموس.

هل يعني هذا أن يكفّ الفلاسفة مثلا عن تصوراتهم في بناء مدينة فاضلة؟ بالطبع لا، لأن ضرورة المدينة الفاضلة قائمة في أي ظرف، حيث هناك دائما ظلم وفساد وحروب وفقر وتسول وجرائم... وإذا كفّ الفيلسوف عن الحلم بالمدينة الفاضلة فهذا يعني موت الحلم وقحط الخيال. لذلك ليس الفلاسفة وحدهم من عليهم الاستمرار في ذلك، بل إن فكرة المدينة الفاضلة صارت تتسرب إلى أعمال الأدباء والشعراء هنا وهناك، بل إن (الشاعر) المتّهم بأنه يقول ما لا يفعل، هو متورط في مشروع المدينة الفاضلة بطبيعة عمله القائم على الخيال والرؤيا، ولكن ليس مطلوبا منه أن يتصور مدينة فاضلة تشبه مدينة أفلاطون وغيره، بل تنبع مدينة الشاعر من دعوته إلى الدفاع عن الحرية والحق والجمال والخير، ويقف في وجه القتلة واللصوص وتجار الدماء والسلاح والطغاة... إن الشاعر أيضا له نصيبٌ من تأسيس مفهوم المدينة الفاضلة جنبا إلى جنب مع الفيلسوف.

ومع ذلك فثمة من يرى أيضا أن شرط فكرة المدينة الفاضلة هو وجود مدينة (غير فاضلة) على أرض الواقع! بمعنى أنه ما مسوغ الحلم بمدينة فاضلة إذا كان البشر يعيشون في سعادة وحرية وعدالة؟ فالإنسان يحلم بما ينقصه ويعاني من عدم تحقيقه.

لماذا كانت فكرة المدينة الفاضلة تشغل الفلاسفة أكثر من غيرهم؟ لأن تصورها وبناءها يشمل مختلف نواحي الحياة ولا يقتصر الأمر على جانب بحد ذاته، فلا بد لها من تفكير شاملٍ متكامل يعتبر الفيلسوف أكثر من غيره قدرة على امتلاك هذا التفكير الشامل (الاستراتيجيّ). من هنا يعتبر الأديب الذي يتورط في تصور المدينة الفاضلة ذا خلفيّة فلسفية فكرية، لأنه يستمدّ من عمل الفلسفة طريقة تفكير ولكن بأدواته الأدبية الإبداعية. وهذا ما فعله عدة روائيين مثلا كان أولهم الانكليزي توماس مور الذي لا يغفل أي كلام عن المدينة الفاضلة عن ذكره كونه الشخص الأول الذي أطلق مصطلح (يوتوبيا) في روايته التي تحمل الاسم نفسه Utopia وذلك في عام 1516 وفيها تصور أدبيّ فكريّ لجزيرة زعم توماس مور أنها شاهدها، أي أنها مكان واقعيّ! لذلك لم يكن مور بحاجة إلى تخيلات أفلاطون الذهنية بل ثمة واقع حيّ بنى انطلاقا منه يوتوبياه. وقد اعتبرت روايته بمضمونها الفلسفي السياسيّ الشجاع البذرة الأولى في تاريخ الكتابة الروائية لمفهوم رواية اليوتوبيا. ولم تكن روايته مجرد عمل أدبيّ لواقع مفترض، بل قدم هجائية قوية للواقع الفاسد الذي كان في عصره، مما يؤيد فكرة أن شرط المدينة الفاضلة وجود مدينة غير فاضلة في الواقع. وسوف ينتظر عالم الأدب سنوات طويلة حتى تكتب أعمال ولو كانت قليلة تصبّ في المنحى ذاته مثل رواية الانكليزي ألدوس هكسلي (عالم جديد شجاع) سنة 1932 التي أدان فيها علماء الواقع الذين يفسدون على الإنسان وجدانه وعاطفته ويشوهون أخلاقياته بحدة التقدم التقني والعلميّ. وقام بطرح بديل هو الحفاظ على الحميمية والجانب الروحي في الإنسان، لأن اللهاث المفرط وراء استعراضات العلم ومنجزاته سوف يودي بالبشرية إلى الجفاف العاطفي والتدخل في أصغر شؤون الإنسان الشخصية والاعتداء عليها.