بعد الاتفاق التركي الأميركي

2019.10.19 | 18:22 دمشق

20191017_2_38800144_48571685.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتمسك بعض العواصم العربية والأوروبية بتصوير الاتفاق التركي الأميركي الأخير حول تعليق العمليات العسكرية التركية ضد وحدات الحماية لتمكينها من مغادرة مدينة رأس العين بعد تسليم أسلحتها وتدمير تحصيناتها ولتطهير منطقة بطول 120 كم وعمق 30 كم وتكون جزءا من مشروع المنطقة الآمنة، على أنه اتفاق على وقف إطلاق النار وهزيمة لأنقرة التي فشلت في تحقيق أهدافها نتيجة الضغوطات الأميركية.

لا بأس في ذلك إذا ما كان يرفع من معنوياتهم في هذه الظروف الصعبة التي يعيشونها بعد كل الحملات الإعلامية وقرارات التنديد والإدانة ومواصلة التلويح بالعقوبات ضد تركيا خصوصا قبل وصول نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى العاصمة التركية "في مهمة فاشلة لا محالة" فجاءت تغريدة ترمب المسائية حول الوصول إلى تفاهم بمثابة الضربة القاضية. في الصباح كان يقال لنا أن "أردوغان بات ظهره إلى الحائط ولم يعد لديه هامش المناورة مع واشنطن". في المساء جاء الرد "خيبنا آمالكم فاعذرونا".

الاتفاقية هي تركية أميركية حول انسحاب مجموعات وحدات الحماية من رأس العين وفتح الطريق أمام تكريس المنطقة الآمنة التي تريدها أنقرة وتفكيك مشروع "قسد" المرتبط بهدف التفتيت والانفصال في سوريا ثم تحصين الرئيس دونالد ترمب لمواقعه في المشهد السياسي والانتخابي الأميركي المقبل.

لكن روسيا هي الرابح الأكبر، بعدما أمنت إعادة انتشار قوات النظام في مناطق سورية جديدة بينها نقطة الصفر في الحدود التركية السورية وحققت الكثير مما تريده من أهداف ميدانية وسياسية. ناهيك عن تمدد روسي استراتيجي أمام السواحل السورية والمتداخلة مع منطقة شرق المتوسط الغازية والقواعد العسكرية التي تعطيها فرصة التمركز في قلب الشرق الأوسط من جديد.

روسيا هي الرابح الأكبر، بعدما أمنت إعادة انتشار قوات النظام في مناطق سورية جديدة بينها نقطة الصفر في الحدود التركية السورية وحققت الكثير مما تريده من أهداف ميدانية وسياسية

الخاسر الأول والأهم هو " قسد" ومشروعها في سوريا. كانت تتنقل من حضن إلى حضن أما اليوم فهي تتنقل من جرن إلى جرن. آخر ما بقي لها هو الهرولة نحو دمشق مجددا لتسليمها عبر وساطة روسية المناطق والقرار والخيار مقابل حمايتها من الغضب التركي. هل التحرك بهذا الاتجاه يرضي الحارس الأميركي أم أن واشنطن التي تستعد للمغادرة هي التي نصحتها بذلك بعدما لم يبق بيدها أية أوراق تلعبها؟

العملية العسكرية التركية كانت الفرصة التي يحتاجها العديد من العواصم العربية للمجاهرة بموقف العداء والرفض لحكومة العدالة والتنمية وسياساتها الإقليمية إلا أن الاتفاقية التركية الأميركية جاءت سريعة باتجاه تخييب الآمال والرهان على طلاق بين أنقرة وواشنطن يطيح بالحزب الحاكم في تركيا. العديد من الدول العربية كانت السباقة في إقامة قنوات التواصل والحوار مع دمشق وتجاهلت التوغل الأميركي في سوريا ودعمت تحركها في شرق الفرات والرهان على المجموعات الانفصالية هناك واستقبال قيادات "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي في السر والعلن للعب ورقته ضد تركيا. عواصم كثيرة في المجموعة العربية بين الخاسرين أيضا وما تنتظره هذه المرة هو خلاف تركي روسي أو قرع أبواب طهران للمصالحة معها علها تقدم بعض الخدمات ضد تركيا في سوريا والعراق والمنطقة. ربما أفضل ما يمكن أن تفعله هذه العواصم هو حفلة تكريم عاجلة لبشار الأسد تقديرا لصموده في وجه الكثير من محاولات إزاحته التي خططت لها وأشرفت عليها.

أوروبا أيضا في وضع لا تحسد عليه بعدما راهنت على إمكان تلقين أنقرة الدرس من خلال لعب الورقة الكردية الضاغطة في الكثير من مدنها سياسيا وانتخابيا. فحاولت التقاط فرصة التنديد بالعملية التركية وإدانتها في مجلس الأمن لكنها وجدت أن كل ما بمقدورها فعله هو إقرار بعض العقوبات على أنقرة التي ستنعكس عليها هي سلبا أكثر مما قد تؤثر على تركيا. فموضوع اللجوء ومسألة الدواعش وتراجع فرصة "قسد" ستكون في مقدمة الملفات التي ستضعها أنقرة على الطاولة ما إن تنتهي فترة انسحاب وحدات الحماية ويلتقط الرئيس التركي أنفاسه بعد العودة من لقاء الرئيس الروسي بوتين وإنهاء زيارته إلى البيت الأبيض منتصف الشهر المقبل.

الموضوع الإيراني هو الأكثر غموضا في المرحلة المقبلة. كيف ستحسم التفاهمات الأميركية الروسية حوله ومن سيتحمل أعباء فاتورة توريطه في مصيدة إقليمية تكون أبعد بكثير من الموضوع السوري؟ أم أن المفاجأة قد تكون أضعاف النفوذ التركي لصالح الصعود الإيراني والإسرائيلي وأرجاء مسألة الحسم مع إيران إلى مكان وزمان آخر إرضاء للبعض وريثما تجهز الطبخة؟

الموضوع الإيراني هو الأكثر غموضا في المرحلة المقبلة. كيف ستحسم التفاهمات الأميركية الروسية حوله ومن سيتحمل أعباء فاتورة توريطه في مصيدة إقليمية تكون أبعد بكثير من الموضوع السوري؟

النظام السوري سيبقى دوره هامشيا ومرتبطا مباشرة بالقرار الروسي في الحل السياسي الانتقالي. موسكو تبحث عن العرض الأنسب لحسم موقفها وهو لن يكون بعد الآن الاصرار على دعم النظام إذا ما قدم لها العرض الأميركي الإسرائيلي المغري من خلال الإطاحة بالعصفور الإيراني عبر توريطه أكثر في الملفات السورية والعراقية واللبنانية واليمنية. الغامض حتى الآن هو متى وكيف سيدخل النظام مجددا إلى شرق سوريا وفي إطار أية تفاهمات مع " قسد " المتهمة بزرع الفتن بين الشعب السوري من قبله؟ كيف سيسحب البساط من تحت قدميها وهل ستعطيه مفاتيح مخازن السلاح الأميركي المقدم إليها وترشده إلى مكانها؟ وهل سيكون هناك تفاهمات تركية روسية على ذلك؟ هل ستقبل أنقرة بالتخلي عن التمدد أكثر من ذلك في إطار خطة المنطقة الآمنة؟ وما الذي ستقدمه موسكو من ضمانات وعروض تساهم فعلا بإعلان جاهزية الطبخة السياسية في سوريا؟ موضوع إدلب لم يحسم بعد. وكأننا نسمع صوتا يتحدث عن مقايضات مؤقتة ترضي الجميع وتسرع ترتيب طاولة الحلول؟ وكأننا نسمع أيضا من يذكرنا أن النظام مصر على طاولة مفاوضات تعدها موسكو له مع الأتراك الذين يكتفون بحوار الضرورة.

إسرائيل مجبرة على إرجاء خطة الوصول إلى نهري دجلة والفرات إلى وقت أخر فهي خسرت الرهان على حصان "قسد". لكن ما تملكه هو جماعات مدربة مدججة بالسلاح من وحدات الحماية وعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الذين قد يعودون إلى جبال قنديل بانتظار الفرصة القادمة. 

العديد من القوى السورية المعارضة أغضبها مشاركة الجيش الوطني السوري في العملية العسكرية التركية. إذا ما تسلم هو إدارة المناطق التي تم تحريرها من قسد ونجح في تحمل هذه المسؤولية فهي ستعطيه الفرصة لدعم قوى المعارضة السورية الأخرى في التفاوض على شكل ومسار خطة المرحلة الانتقالية سياسيا ودستوريا في البلاد وهو بين أفضل الخيارات الممكن أن تقدم عليها أنقرة في القريب العاجل.

احتمالات وقوع الخلاف بين أنقرة وموسكو مستبعد تماما إلا إذا نجحت واشنطن وتل أبيب وطهران وبعض العواصم العربية والأوروبية في توحيد جهودها لضرب هذا التنسيق الذي سهل وجود السياسي الروسي ألكسندر لافرنتييف في القصر الرئاسي التركي قبل دقائق من وصول نائب الرئيس الأميركي.