بطل في الظلّ.. الأمن العسكري في حلب

2019.10.08 | 03:13 دمشق

shadow.jpg
+A
حجم الخط
-A

(العِرفان) من المصطلحات الرائعة التي نستخدمها تعبيراً عن الامتنان، وهي كذلك لأنها تتطلب شرطاً.. فالأصل هو (العرفان بالجميل) بمعنى معرفته والاعتراف به، فإذا انتفت المعرفة غاب الشكر.. وفي مواقف أخرى حلّت (البغضاء) مكانه.

كانت مظاهرتنا الأولى أواسط نيسان 2011 في جامع آمنة بنت وهب في حي سيف الدولة الحلبي صادمة للعديد منا، فحجم التجاوب من المصلِّين لم يكن يُذكر بل إنّي سمعت بعضهم يتهمنا بالعمالة ، لكن ذلك لم يكن ليثنينا عن حراكنا، فحلب هي العاصمة الاقتصادية وكبرى مدن الشمال السوري.

في ذلك الوقت كُنّا نعمل كمجموعة مّنظّمة تضمّ عدداً من طلاب الجامعة وأبناء المدينة في شكل أقرب للتنسيقية، وكان لنا اجتماعات دورية تحدد أماكن المظاهرات ونوع الهتافات، مع اجتماعات لاحقة تقيم أداءنا في المظاهرة والأخطاء التي حدثت وكيفية تفاديها مستقبلاً، كما كنا نحاول إيجاد حلول لمواجهة القبضة الأمنية لنظام آل الأسد التي أحكمها على المدينة، كفكرة (مجموعة البداية) و(هتاف النهاية) ضمن تكتيك (المظاهرة الطيارة)، إلا أن إحدى أهم واجبات مجموعتنا –التي فرضناها على أنفسنا– كانت مواجهة دعاية نظام آل الأسد الذي كان يحاول تحييد مدينة حلب عن الثورة السورية، ناشراً إشاعاته في المدينة عن المتظاهرين من "أبناء الأرياف الناقمين على المدن" أو "الفقراء الطامعين بأموال التجار" أو حتى "الفُسّاق السّاعِين لانتشار الرّذيلة"، وهي إشاعات كانت تلاقي أصداءً لدى بعض أهالي المدينة المحافظة –عموماً–  والمشهورة بتوجه أبنائها للأعمال الحرة بعيداً عن قطاع الدولة العام.

في سوريا اعتاد أسلافنا القول: "إذا بدك تنشر خبر.. احكيه للحلاق"، لكن ذلك تغيّر في عصرنا خاصة مع انتشار مهن أخرى يخالط أصحابها الناس بصورة أوسع، وبالنسبة لمجموعتنا كان سائقو سيارات الأجرة وأصحاب محال البقالة الصغيرة أفضلَ من يمكنهم نشر الأخبار، ولذلك أخذنا على عاتقنا مخالطة أصحاب المهنتين السابقتين خلال حياتنا اليومية تبشيراً بالثورة وتفنيداً لإشاعات النظام، مع اتّخاذ الاحتياطات اللازمة تحسّباً لانتشار عناصر الأفرع الأمنية والمتعاونين معها بين صفوفهم، فنأخذ سيارة بعيداً عن مكان عملنا أو سكننا، ونغادرها قبل شارعين من وجهتنا الحقيقية، أما بالنسبة لمحال البقالة فالأمر أبسط.. لا تَشترِ من محلّ في حيِّك الذي تقطن فيه.. وتذكّر دائماً أن تغادره بسرعة.

كان سائقو سيارات الأجرة وأصحاب محال البقالة الصغيرة أفضلَ من يمكنهم نشر الأخبار، ولذلك أخذنا على عاتقنا مخالطة أصحاب المهنتين السابقتين خلال حياتنا اليومية تبشيراً بالثورة وتفنيداً لإشاعات النظام

أواسط أيار 2011 كنت وصديقي أحمد (أحد طلاب العمارة من أبناء مدينة جبلة الساحلية) نقصِد "مقهى إنترنت" في حي (الخالدية)، مشينا شارعين من مكان المنزل في حي (المارتيني) إلى (نزلة أدونيس) وهناك أوقفنا سيارة أجرة إلى الخالدية.

على غير المعتاد بدأ سائق السيارة الثلاثيني الحديث عن "الاضطرابات" في البلاد، دون أن ينسى التعريض بالمتظاهرين "أصحاب السوابق وأهل الشرور.."، ودار نقاش بسيط بيننا في المدة التي سمح لنا بها الطريق عن مفهوم (الحرية) وجحيم (قانون الطوارئ) وأحداث درعا وغيرها من المدن الثائرة، فيما اكتفى السائق بتكرار الإشارة إلى فتيات أو نساء يمشين في الطريق مذكِّراً "لولا الأمن والأمان.. لما رأيتهنّ هكذا"..

كان يجب أن أتنبّه عندما قاطعني متذرِّعاً باتصال تحدث فيه عن "طرمبة بنزين" يبدو أنه تركها عند ورشة ما..
كان يجب أن أتنبّه عندما قال "طرمبة حصانين.." فيما يبدو إشارة إلى عددنا..
لكن الحماس لموضوع النقاش أذهلني عن ذلك..

وصلنا قرب (محال سلّورة) وهناك أشرت إليه بالتوقف، لنترجّل وصديقي إلى الشارع الفرعي القريب ومنه إلى اليسار فاليسار مرة أخرى عودة إلى الشارع الرئيسي نفسه التزاماً بإجراءات السلامة، ثم دخلنا "الكافيه" مختارين طاولة قرب النافذة المطلة على الشارع.

طلبنا ما نشرب وفتح كل منا "لابتوبه" متصفّحين الأخبار والرسائل الخاصة.

أيامها كان الحماس للثورة مختلِطاً بكل قضايا "الأمة" –حاضرها وماضيها– التي طالما تحركت لها المشاعر، ولسبب أجهله نشرت على حسابي الشخصي على موقع "فيس بوك":
"خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود.. بس نخلص اللي بإيدنا وجايينكم"

فرغتُ من المنشور لأجد يداً تمتدّ إلى شاشة "لابتوبي" مغلقة إيّاه و"لابتوب" صديقي، ويداً أخرى تمسك بي من كتفي، حوّلتُ نظري إلى مجموعة من عناصر الأمن بلباس مدني يحيطون بطاولتنا، وقبالة النافذة على الرصيف وقف بقيتهم مع صاحب سيارة الأجرة التي أوصلتنا سابقاً.

فرغتُ من المنشور لأجد يداً تمتدّ إلى شاشة "لابتوبي" مغلقة إيّاه و"لابتوب" صديقي، ويداً أخرى تمسك بي من كتفي، حوّلتُ نظري إلى مجموعة من عناصر الأمن بلباس مدني يحيطون بطاولتنا

تنقّلنا من مؤخرة سيارة "فان" بين أقدام العناصر إلى (فرع الأمن العسكري) في حلب وصولاً إلى مكتب "مهندس الكمبيوتر محمد"، حيث سلّمْنا "اللابتوبات" وكلمات السر لها ولحساباتنا على "فيس بوك"، ثم إلى "غرفة التحقيق" الّتي وُجهنا فيها بتهمة "الحديث عن الحرية".

نفينا التهم الموجهة إلينا مُصرّين على زَيفِ ادّعاءات السائق الذي وَشى بنا، لأُوَاجَه بمنشوري الأخير مطبوعاً على ورقة بيضاء أمام طاولة المحقق..
"شو اللي بإيدنا بدك تخلصه ولا.. وجيشُ محمد كمان؟؟!!" سأل المحقق وهو يطالع الورقة.
"سيدي.. أنا قصدي نحرر القدس.. من إسرائيل.." أجبت وقد بدأت أدرك المصيبة التي سأُعتَقل بسببها "تنظيم جهادي بلا شك.."

"ومين قلك بدنا نحرر القدس؟!!" كانت إجابة المحقق أوضح من أن أحاول تبريرها..

"ومين قلك بدنا نحرر القدس؟!!" كانت إجابة المحقق أوضح من أن أحاول تبريرها..
اكتفيت بالصمت قبل أن يرسلني المحقق إلى غرفة "المهندس" مرة أخرى.

كان محمد شاباً في العشرينيّات من عمره تشير لهجته بوضوح إلى انتمائه إلى الطائفة "العلويّة"، وبالرغم من عمله في فرع الأمن العسكري إلا أن تعامله كان مختلفاً معنا، فقد سمح لي بالجلوس على كرسي أمامه كما سمح لي بتدخين "سكارة ونستون فضي" من علبتي في حقيبة كمبيوتري أمام مكتبه..

"بتحب مظفر النواب؟!!" سألني وهو يتفحص شاشة "لابتوبي" المفتوح أمامه مبتسماً..
أدركت حينها أنه وجد مجلّداً مخفِيّاً فيه قصائد لشاعر العراق العظيم ومحاولات شِعريّة فاشلة لي في الثورة مع عدة مقاطع فيديو لمظاهرات متفرقة..

اكتفيت بالصمت وتدخين لفافة التبغ بين أصابعي المرتجفة، قبل أن يستدعينا عنصر أمن إلى مكتب (العقيد عماد) وهو الضابط المناوب في قيادة الفرع تلك الليلة.

كان محمد شاباً في العشرينيّات من عمره تشير لهجته بوضوح إلى انتمائه إلى الطائفة "العلويّة"، وبالرغم من عمله في فرع الأمن العسكري إلا أن تعامله كان مختلفاً معنا

في مكتب العقيد الذي فتح شاشة التلفاز على (قناة الجزيرة) وبعد محاضرة طويلة عن الحرية ودور البلاد المقاوم لا أذكر منها إلا قوله: "إنتوا طلاب جامعة وما حلوة تتجرجروا لهون مشان كلمتين قدام شوفير تكسي أخد 300 ليرة.." اقتربَ عنصر أمن منه هامساً في أذنه..

لعلّ صوت الهمس كان أعلى من المفترض أو أن الشعور بالخطر يشحذ حواسّ الإنسان، لكني سمعت بوضوح ما قال: "المهندس يقول مافي شي علابتوباتهن.."

هزّ العقيد رأسه ثم التفت إلينا مبشِّراً "رح نطالعكون اليوم.. بس لازم تراجعونا بكرا وتراجعوا فرع الجامعة.."

إجراءات معتادة تسلَّمنا فيها أماناتنا ثم مضينا في طريقنا إلى مدخل الفرع مروراً بغرفة المهندس محمد الذي وقف أمامها يطالعنا، حَنَيتُ رأسي له عرفاناً بجميله.. وفعل الأمر ذاته، ثم غادرنا الفرع إلى حرية كان رجاؤنا قد انقطع منها.

في اليوم التالي حماني عنصر آخر من ريف ديرالزور من قبضة محقّقٍ أراد "تربيتي" –بحسب وصفه– هامساً في أذني "الله يقويكم.."، كما فعل محمد قبله وكما فعل العشرات من عناصر منظومة آل الأسد الأمنية، الذين انحازوا إلى أهلهم متحمِّلين ضعف عقوبتنا إذا ألقي القبض عليهم، ومنقِذين الآلاف من أبناء سوريا من جحيم الاعتقال وربما الموت..

سواء عرفناهم لصدفة سمحت لنا بذلك.. أم جهلناهم.. شكراً أبطال الظلّ.