بشار الأسد يؤكد فشله المعهود في إدارة التنوع السوري

2020.12.19 | 23:00 دمشق

photo_2020-12-13_14-15-46.jpg
+A
حجم الخط
-A

أثار خطاب بشار الأسد الأخير الذي ألقاه في جامع العثمان بدمشق بتاريخ 7/12/2020 خلال الاجتماع الدوري لوزارة الأوقاف السورية كثيرا من الاستغراب والاستهجان والرفض من قبل الأوساط السياسية والمجتمعية السورية، ولا سيما تلك الفقرات في خطابه التي تناولت مسألة "عروبة سوريا"، والتي اعتبرها الأسد من المسلمات التي لا يمكن الخوض فيها، كون الأمر "محسوم" لديه، كما واعتبر أن المجتمع العروبي هو عماد الدين الإسلامي وبأنه "لا يمكننا تخيل الدين الإسلامي من دون الدور المركزي لهذا المجتمع وهذا هو الشيء الطبيعي لتأثير اللغة وتأثير الثقافة"، ونفهم من هذا الكلام أن اللغة العربية هي التي رفعت من قيمة الدين الإسلامي لا العكس.

لن نخوض في مسألة عروبة سوريا "التاريخية" كونه أمر سيثير كثيرا من الجدل، وقد تكون نقطة خلاف بين السوريين، حيث إن هذا النمط من التفكير أيده بعض السوريين أو على الأقل آثروا الصمت المريب حياله، ولانقصد هنا أولئك المؤيدين لنظام الأسد لأن هؤلاء لا يمكن أن نتخيل منهم أي اعتراض على كلام سيدهم، فهم يعتبرون الأخير منزه عن الخطأ، حتى لو جاء بكلام متناقض خلال الجلسة الواحدة، ولكن نقصد بكلامنا البعض من المعارضين السياسيين للأسد، هؤلاء الذين اختلفوا مع الأسد دون أن يختلفوا عنه، لكن الأسد نفسه ناقض كلامه بهذا الخصوص عندما ذكر بأن العرب كانوا يسكنون سوريا قبل الميلاد بقرون، لكنهم كانوا يتحدثون اللغة الآرامية، ألم يسأل الأسد نفسه لماذا كانوا يتحدثون الآرامية ولغتهم العربية هي الأغنى بمفرداتها والأكثر خصوبةً بمعانيها؟ وكما قلنا آنفاً من غير المجدي البحث في هذه المسألة كوننا كسوريين نحتاج إلى البحث عن المسائل التي تجمعنا وتلم شملنا المشتت، لا تلك التي تزيد من تفرقنا، الجغرافي والمجتمعي والفكري.

أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي انتزع السلطة عبر انقلاب عسكري سُمي رغماً عن السوريين بثورة الثامن من آذار، كلها ترسخ هذه النزعة العروبية، وتهدف إلى إلغاء الآخر المختلف

وبالعودة إلى خطاب الأسد والاستغراب الذي أثاره لدى البعض، أستطيع القول إن الأمر لم يكن بحاجة إلى كل هذا الاستغراب والصد والرد، كون ما جاء فيه ليس إلا فكرا مكررا على مدى عقود من الزمن، فأدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي انتزع السلطة عبر انقلاب عسكري سُمي رغماً عن السوريين بثورة الثامن من آذار، كلها ترسخ هذه النزعة العروبية، وتهدف إلى إلغاء الآخر المختلف، لغة وديناً وتفكيراً، كما وتم تأكيد هذا النَفَس الإقصائي في الدساتير السورية المتعاقبة ولا سيما تلك التي وُضِعَتْ بعد تسلم البعث لدفة قيادة الدولة والمجتمع منذ انتزاعه للحكم وحتى الآن، وخاصة دستور 1973 (دستور حافظ الأسد) ودستور 2012 (دستور بشار الأسد)، والذي جاء نسخة شبه مستنسخة عن سابقه.

فهذا الدستور (2012) ولأنه جاء نتيجة ضغط الاحتجاجات التي شهدتها البلاد، بطولها وعرضها، ونادت إن "الشعب السوري واحد"، كان من المفروض أن يعالج تركة الماضي من سياسات الظلم والتهميش والإقصاء التي مورست بحق السوريين ردحاً من الزمن، وأن يكون جامعاً لهم بكل انتماءاتهم وقومياتهم وأديانهم وطوائفهم، إلا إنه وعلى العكس من ذلك جاء ليصهر السوريين بجميع مكوناتهم وأعراقهم في بوتقة واحدة، هي البوتقة العروبية الإسلامية، حيث أكد في ديباجته أن السوريين بكل مكوناتهم وقومياتهم "جزء لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي... وتعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي"، دون منح الحق للقوميات الأخرى الأصيلة في سوريا بالاعتزاز بقومياتها، بل المطلوب منها وفق ما يُفهم من هذه العبارات هو أن تتجاهل أصولها وفصولها وتنصهر في القومية العربية، ونص أيضاً على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام، متجاهلاً دور باقي المكونات في بناء حضارة سوريا، هذه الحضارة التي كانت نتاج الجهود المتراكمة لجميع المكونات التي تشكل المجتمع السوري الثري بتنوعه واختلافه، وهذا ما يشكل غنىً وقوةً وجمالاً لسوريا، وعلى العكس من ذلك جاء هذا الدستور لينسف كل تلك الاختلافات، ويثخن جراح السوريين ويعمقها ويطيل أمد النزاع الذي دمر الإنسان والعمران وبدد طاقات السوريين لما يقارب العقد من الزمن، وليس كما روج مناصرو الأسد بأن هذا الخطاب ساهم في "زيادة المناعة الوطنية وزيادة التماسك الداخلي في سوريا".

إذاً، لم يأت الأسد بجديد حتى نتناول خطابه المقيت بردود أفعال قد تزيد الشروخات المختلقة في المجتمع السوري وتعمقها أكثر وأكثر، فنظام الأسد اتبع على مر العقود السابقة سياسة فرق تسد، كي يتمكن من التفرد بكل مكون على حدة، وهذا الخطاب التقليدي بفكره ونصه أظهر الوجه الحقيقي لهذا النظام الذي روَّج لسنين طويلة بأنه حامي الأقليات وملاذها الآمن، فما كان يدعيه بهذا الخصوص هو محض افتراء ومحاولة منه في إقناع المجتمَعَين، المحلي والدولي، بأن الأقليات في سوريا يتربصها خطر محدق وهو صمام الأمان الذي يمنع هذا الخطر من الانفجار، إذ إن سياساته الإقصائية العدائية تجاه باقي المكونات دفعت بكثير منهم إلى مغادرة سوريا والعيش في شتى بقاع الأرض، وحرمان سوريا من طاقات خلَّاقة أثمرت في دول أخرى.

زد على ذلك أنه أظهر عكس ما كان يدعيه بخصوص العلمانية والمدنية التي كان يتبجح بها، فالرجل يرفض مسألة فصل الدين عن الدولة، بحجة أن هذا الأمر غير ممكن واقعياً، متجاهلاً تجارب كثير من الدول التي انتهجت هذا المبدأ للتخلص من هيمنة الدين على مفاصل الدولة، وحققت نجاحات باهرة في كل المجالات بعد أن كانت تعيش في هوة سحيقة كان لرجال الدين الدور البارز في تعميقها، ويبدو أن الهدف من وراء هذا الطرح هو استغلال الدين لتدعيم أركان حكمه، وخاصة وزارة الأوقاف التي كانت "رديفاً للجيش" حسب قوله، الجيش الذي قتل ودمر وشرد، وداس على كرامات الناس وأجهض أحلامهم الفتية التي تمثلت بحياة حرة كريمة، ومع كل هذا طالب وفد النظام في ورقته المقدمة في الجولة الرابعة لاجتماعات اللجنة الدستورية، "بدعم الجيش العربي السوري بكل السبل في القيام بمهامه"، تلك المهام التي انصبت طيلة السنوات السابقة على إهانة السوريين وإذلالهم.

النظام ليست لديه النية في إصلاح نفسه بما يحقق رغبات السوريين، حتى المناصرين منهم لهذا النظام، وكذلك الذين آثروا الصمت

والتعامل مع الأزمة التي تعصف بسوريا والسوريين بهذه العقلية اللامبالية والمنفصلة عن الواقع، يؤكد أن هذا النظام ليست لديه النية في إصلاح نفسه بما يحقق رغبات السوريين، حتى المناصرين منهم لهذا النظام، وكذلك الذين آثروا الصمت وكان همهم تأمين لقمة العيش لا أكثر، فهذا النظام لم يستطع حتى تأمين أدنى متطلبات الحياة لهؤلاء، كالماء والكهرباء وحتى رغيف الخبز الذي بات الحصول عليه بالنسبة لهم حلماً يومياً، لا بل كابوساً يثقل كاهلهم ويحرمهم النوم، ويؤكد أيضاً أنه بعيد عن العملية السياسية التي تجري في أروقة الأمم المتحدة، والمختزلة حالياً في سلة الدستور، على الرغم من قناعة كثير من السوريين بعدم جدوى هذه العملية العرجاء، التي استغرقت سنوات من التفاوض والأخذ والرد ولم تحقق أي تقدم يلفت الانتباه على الأرض، فلا تزال الدماء تسيل والأعراض تنتهك والحقوق تصادر، ومع كل ذلك يرفض النظام حتى الآن الانخراط جدياً في هذه العملية، مع أن كل المؤشرات تدل على أنها بواقعها الحالي وطريقة سيرها ستصب في مصلحته في نهاية المطاف.

والحال ما ذكر يفترض بنا كسوريين أن نتجاوز ما ورد في ذاك الخطاب الذي يؤكد فشل صاحبه في إدارة التنوع الموجود في سوريا، لا سيما وأنه ورد على لسان من سار على نهج أبيه، في إغراق البلاد بالحروب والأزمات، ولسنا هنا بصدد تعدادها وتوضيحها، فكلنا نعلمها وعايشناها ولا نزال، بل علينا البحث عن المشتركات التي تجمعنا كسوريين، وهي كثيرة، والبناء عليها، وأهم تلك المشتركات هو المصير المنتظر، فإما أن نتغلب على تلك الخلافات المصطنعة والمدبرة ونكون على قلب رجل واحد، لنكون قادرين على العيش سوية في سوريا الجديدة والتي ستأتي، إن عرفنا كيف نستفيد من نقاط القوة في مشتركاتنا، أو أن نبقى أسرى في تفكيرنا لتلك الخلافات وننجرَّ وراء من يحاول إذكاء نارها، فستصبح الحياة لنا وللأجيال المقبلة في سوريا من دون اقتتال واحتراب ضرباً من الخيال.