بسرّية تشبه الفضيحة.. التهجير مستمر

2021.09.21 | 06:13 دمشق

aa.png
+A
حجم الخط
-A

بعد عشر سنوات من نزيف النزوح المفتوح ضمن الأراضي السورية، وغالباً منها إلى خارج الحدود، أقر مجلس شعب نظام الأسد في شهر مارس/آذار الماضي قانوناً خاصاً بتهريب الأشخاص. لم لا؟ وسوريا من الدول الموقعة على بروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين، الصادر عن الأمم المتحدة عام 2000.

قبل بداية كل عام من الأعوام الأولى للثورة، كانت المنظمات الدولية، بما فيها "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، تقدم تقديرات، تدعو للإعجاب لدقتها، عن عدد اللاجئين السوريين المحتملين، الذين سوف يغادرون سوريا في العام التالي، مطالبة دول العالم بتقديم المساعدات العاجلة، لدعم خطط الاستجابة الطارئة.

غالباً ما كانت أعداد اللاجئين تقترب من توقعاتهم، أو تزيد. نعم بهذه الشفافية والعلنية، كان يجري فرار السوريين من المقتلة، وبعلم مسبق من كل الفاعلين الدوليين، الذين غالباً ما كانوا يستجيبون بسخاء لمثل تلك النداءات، دون أن يخطر لأي من تلك الدول الإجابة عن السؤال البديهي، ولكن، لماذا لا نعمل على إيقاف ما يجري؟ إنه السؤال الذي لا يريد أي طرف دولي الإجابة عنه، حتى يومنا هذا.

تشير أدنى الأرقام إلى مغادرة أكثر من سبعة ملايين سوري بلدهم إلى دول الجوار، وأوروبا وعديد من دول العالم خلال العقد الأخير. ولكن هل حقاً يهتم نظام الأسد بوقف هذا النزف البشري، ولو تواضعنا بالسؤال أكثر، هل يهتم أساساً بحيوات البشر من السوريين بمن فيهم موالوه؟ لا تحتاج الإجابة هنا، لإعمال الكثير من التفكير.

فمجرد النظر إلى أعداد الضحايا خلال السنوات الماضية، وأعداد المعتقلين والمختفين والقتلى تحت التعذيب، سيكون كافياً للدلالة على سلم أولويات هذا النظام، وسلم أولوياته، إن كان لديه واحداً، يتكون من درجة واحدة "الحفاظ على السلطة" ولا شيء غيرها، ولو كانت الكلفة دمار البلد وموت السوريين أو هروبهم، وجميعنا نذكر الصور الملحمية لطوابير عشرات آلاف السوريين وهم يعبرون أوروبا، خصوصاً عامي 2014-2015.

بحدود علمي لم يسجل التاريخ نظاماً أكثر ضعة من نظام الأسد في تبرير تهجير (مواطنيه الإرهابيين) وعائلاتهم، حسب وصفه. وهذا ما يحدث حتى هذه اللحظة، وإن بصورة أكثر سرّية.

عبر حواجزها ومفارزها المنتشرة في محافظة دير الزور السورية، قامت روسيا مؤخراً، بمنع خروج المواطنين السوريين من مناطق سيطرة النظام باتجاه مناطق سيطرة قسد. جرى ذلك بحسب المتداول، للحدّ من موجات النزوح البشري المستمرة بالتسرب سرّاً بإدارة شبكات مهربين ينسقون فيما بينهم، لضمان انتقال "الزبائن" من مختلف المناطق باتجاه دير الزور، ثم إلى مناطق سيطرة قسد، كنقطة انطلاق جديدة. طبعاً هناك خطوط أخرى تنتهي بقريتي نبّل والزهراء، قبل الانتقال إلى مناطق سيطرة المعارضة بانتظار الفرصة المواتية لدخول تركيا كمستقر، أو معبر إلى أوروبا (هذه الطريق متعثرة اليوم).

طبعاً ظاهرة الفرار من مناطق سيطرة الأسد قديمة، لكن الأمر الذي يبدو أنه لفت انتباه الروس، هو ازدياد الأعداد بمعدلات تفوق ما كان يجري خلال الفترات السابقة. ازدياد المعدلات هذا يعود لعديد الأسباب، من بينها تردّي الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة النظام، وشدّة القبضة الأمنية، مع تعثر المعابر غير الشرعية الأخرى المعروفة في مناطق منبج وأبو الزندين.

يشير العارفون إلى أنه خلال شهري تموز وآب من هذا العام، تجاوز عدد الفارين عبر هذا الطريق وحده العشرين ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن. هذه الشرائح أقل عرضةً للاعتقال من الشباب الذين يريد النظام بقاءهم فيرمي بهم حطباً في معاركه المقبلة دفاعاً عن سلطته، معاركه التي استنفدت مئات آلاف الشباب السوريين.

يسبق الشباب أسرهم، أو يلحقون بها عبر دروب ومعابر أخرى. كثير منهم يتجهون إلى لبنان حيث الحدود أقل ضبطاً بسبب أرتال التهريب في عدة مناطق، أكثرها زخماً معابر عكار وبعلبك الهرمل. بالطبع لبنان المحتضر ليس الوجهة النهائية لهؤلاء الشباب. هو معبر فقط باتجاه البحرِ الذي سيوصلهم بدوره إلى تركيا واليونان. في أحيان عديدة سيوصلهم إلى الموت غرقاً. آلاف تتبعها آلاف، يترك هؤلاء السوريون بيوتهم وممتلكاتهم ليسلكوا دروب خطرة وهم يعلمون أنهم قد يتعرضون إلى الألغام الأرضية في بعض المناطق، أو لإطلاق النار من حاجز ليس شريكاً في عملية تنسيق التهريب بين المهربين وأصحاب القرار في أجهزة القوى المسيطرة على كل مناطق التماس. أجل على كل المناطق، وهنا يصحّ استخدام الشعار اللبناني الشهير "كلّن يعني كلّن"، والدول الفاعلة في المنطقة ليست استثناء من هذا التعميم. لا نحتاج لتعداد واستعراض الأسباب والمآلات المحتملة، لنقول بأن هذا الخروج هو حالة موصوفة من حالات التهجير القسريّ. تهجير بآلية جديدة لا تختلف، من حيث تبعاتها الديموغرافية، عن سابقاتها من موجات الباصات الخضراء، سوى أنّ هذه أكثر خطراً على حياة المهجّرين.

بالانتقال إلى منحى آخر، يمكننا أن ندرك، من خلال الاطلاع على كلفة الخروج، كيف يمعن الجميع باستنزاف السوريين حتى آخر قطرة مما يملكون. تكلفة خروج كل شخص، صغيراً كان أم كبيراً، تبلغ وسطياً ستمئة دولار أميركي، ما يعادل قرابة مليوني ليرة سورية. يضطر معظم هؤلاء الناس لبيع بيوتهم أو على الأقل، أثاث بيوتهم بالكامل. هل تبدو لكم أنها سابقة تاريخية لم تسجل من قبل؟ نعم إنها كذلك، يُهجّر المواطن من أرض أسلافه، في طريق مليء بالمخاطر نحو مصير مجهول ومقابل تلك الجريمة بحقّه، عليه أن يبيع آخر ما يملك.

لا يملّ نظام الأسد من مطالبة اللاجئين بالعودة إلى "حضن الوطن"، بل ويعقد المؤتمرات لأجل ذلك، وهذه ليست نكتة. إنه يمتلك كامل الوقاحة ليفعل، بينما هو في حقيقة الأمر، يهجرهم بكل الوسائل وعلى مرأى من العالم كله، فهذه السرية التي يتبعها الهارب والمهرب، لا تنطلي على أجهزة مخابرات ست دول على الأقل موجودة على الأرض السورية، خصوصاً أن موجات القهر هذه تعبرُ في مختلف مناطق النفوذ، حيث تتحول الجغرافيا السورية التي يتقاسمها شركاء التكسُّب، إلى عدو لئيم فقط لأهلها.

استمرّ سكان شرق هذا البحر المتوسط بالعيش في هذه الجغرافيا لآلاف السنين. يزرعون ويحصدون ويعصرون. عانوا عديداً من الصعاب والضيق خلال تاريخهم، حتى جاء الأسد فجاعوا، وانتهكت حياتهم فقاموا بهذا الفرار الجماعي غير المسبوق. في يوم ما، سوف تتهجى كاميرات السينمائيين ملاحم فرار السوريين على طريق الهروب هذا، متسلقين قعر الهاوية التي أعدها الأسد لهم. طريق يمرُّ بهم في صحراء تدمر، ليخوضوا بعدها عبر مخاضات "حويجات" نهر الفرات، نساء وعجائز وأطفال. مجاميع بشريّة تزحف على البطون، تفادياً لقناصي نقاط المراقبة على اختلاف انتماءاتهم وألوان راياتهم. سوريون ينشدون الخلاص من جحيم سوريا الأسد. سوريا المتروكة للعصابات التي تشترك جميعها، حتى المتعادية منها، في التربّح من المقتلة.