بريء ستخرج ولو بعد مئة عام

2018.05.12 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كثيرة هي التصريحات التي وردت، على لسان مسؤولين روس، (أنهم غير متمسكين ببقاء الأسد) إلا أنهم لا يريدون للمتطرفين أن يحكموا سوريا، وفي تصريح محدد، لوزير الخارجية الروسي، أنه لا يريد للسنة أن يحكموا سوريا. 

ليس هذا الموقف حكرا على الروس، فهو موقف الكثيرين من أصدقاء الشعب السوري، الذين يبررون عدم حرصهم على مساعدة السوريين، في إسقاط الأسد ونظامه، بفقدهم للبديل، أو أن البديل سيكون واحدا من هذه التيارات المتطرفة، وهكذا دواليك تتعدد التعليلات ولا تنتهي، والمضمون الثابت الوحيد، هو بقاء الأسد في السلطة، واستمراره في تقتيل وتهجير، ما تبقى من سوريين، وإحلال غرباء يجلبهم إلى البلاد، محل أبناء البلد المهجرين، وشيئا فشيئا نجدنا نحكي قصصنا، وقصص بيوتنا وأراضينا، بذات المرثية، التي حكى بها من تبقى من الهنود الحمر، ذكريات أرض الجدة المغدورة.

ونبرة مطمئنة أخرى، تتكرر كل حين، أن الأسد لا محالة ذاهب، وأنه فاقد للشرعية، وأنه ليس للأسد دور في مستقبل سوريا، وأن الأمر متوقف على الثمن، الذي ستقبله روسيا أو إيران، لقاء التنازل عنه.

تلك التصريحات تعيدني إلى حديث، دار في الساحة السادسة من سجن تدمر، مطلع عام " 1984" بين قائد السجن العسكري آنذاك، المقدم فيصل غانم، وبين المعتقلين في أحد المهاجع، فقد كان من عادته، أن تكون له جولة ميدانية تفقدية، يشرف فيها شخصيا، على التعذيب، ويمارسه بيده، وأحيانا نادرة كان يقف خطيبا فينا، يتحدث عن مآثر القيادة الحكيمة، وذات مرة تقدم أحد المعتقلين طالبا الإذن بالكلام، فأشار إليه المقدم فيصل أن تكلم،  فأخذ يشرح لقائد السجن، الذي يشرف على حفلات الإعدام الأسبوعية، وحلقات التعذيب اليومية، أنه ومنذ سنة تقريبا، تم تقديمه إلى المحكمة، التي تنعقد في نفس السجن، كل بضعة أسابيع، تطول قليلا أو تقصر، وأنه تلقى حكما بالبراءة، من القاضي العسكري، في تلك المحكمة، وهذا القاضي (قاضي محكمة الميدان سليمان الخطيب) لا يرد له حكم، ولا يراجع له قرار، فلماذا أنا متروك هنا، إلى هذه الساعة، بين محكومين بالإعدام، أو بالأشغال الشاقة، أتلقى التعذيب يوميا، شأني شأن من أدينوا، وثبتت جريمتهم.

انتهى السجين من عرض حالته البائسة، وران صمت طويل، كان المقدم فيصل مطرقا، يصوغ رده الألمعي، ونحن وقوف ننتظر رده، وقد بدأت السخرية تتسلل إلى نفوسنا، من هذا الموقف الصعب، الذي حشر نفسه فيه، كيف سيبرر الآن، الإبقاء على السجين، رهن التعذيب اليومي، مع أن محكمتهم العتيدة، التي لا يرد لها قضاء، أصدرت حكما ببراءته، هذه المحكمة التي كثيرا ما أصدرت حكما بالإعدام، وأشرفت على تنفيذ هذا الحكم، بعد دقائق من صدوره، دون المصادقة عليه، كما كان المعهود أن يجري، من قبل وزير الدفاع، العماد مصطفى طلاس.

 كشعب مهجر مقتل، منتهك في كل حقوقه، ما الذي سيبقى منا لو انتظرنا، رحيل الأسد ذات يوم، لا ندري متى يحين هذا اليوم، وكم ستنقضي من أعوام.

رفع المقدم فيصل رأسه، ووجهه يشرق ثقة، وأشار بسبابته للسجين، الذي ينتظر رده، بصوت عال، كأنه يسطر بكلماته، مأثرة سيذكرها التاريخ، (إذا كنت بريء، تأكد أنك لن تظلم قيد شعرة، بريء ستخرج ولو بعد مئة سنة) وطغى على المشهد، تصفيق حاد، من مجموعة الجلادين، الذين يحيطون بقائدهم، فقد سطر ببلاغته أعدل رد، يمكن لسجان أن يطمئن به قلب سجينه المقهور، وذهبت مثلا، كما كان يذكر الميداني، في كتابه مجمع الأمثال، فكنا نكررها مرارا، كلما أراد أحدنا أن يطمئن سامعيه، أو محدثيه بطريقة ساخرة.

وبالعودة إلى صديقنا، الذي سيخرج ولو بعد مئة سنة، ما الذي سيبقى منه، بعد مئة سنة.

وكذا حالنا اليوم، كشعب مهجر مقتل، منتهك في كل حقوقه، ما الذي سيبقى منا لو انتظرنا، رحيل الأسد ذات يوم، لا ندري متى يحين هذا اليوم، وكم ستنقضي من أعوام، ماذا سيكون مصير آلاف الأطفال، المتسربين من مؤسسات التعليم، كيف سنعيد تهيئة آلاف الأطفال، الذين تشوهوا في أسواق العمل، وفي الشوارع بحثا عن طعام، أو كساء أو أهل مفقودين، ما الذي سنفعله بآلاف المعاقين، الذين بترت أطرافهم، أو فقدت عيونهم، ما الذي سنفعله بآلاف الأطفال، الذين ألفوا صوت الرصاص، وانفجار البراميل اليومية، وألفوا رائحة الدم، والموت الذي يتراقص، في كل شارع وكل منعطف، كيف سيعرف هؤلاء الأطفال، معنى العدالة، وكيف سيقبلون ما يسمعونه اليوم، عن العدالة الانتقالية، وهم يروون عبر شاشات الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي، كيف يحتفل أطفال العالم، كل حين بعيد المعلم، وبقدوم الربيع، وعيد الأم، وبرأس السنة وعيد الطفولة، وعشرات الأعياد، التي يسمعون عنها ويطالعون صورها، وهم محرومون من أدنى حقوقهم، ككائنات حية،

من الصعب والصعب جدا، أن نتخيل ماذا خلفت لنا هذه الحرب، وهذا الصمم العالمي، عن صراخ أطفالنا، لكن من السهل جدا، أن يكرروا على مسامعنا، أن الأسد فاقد للشرعية، وأنه محال بقاؤه في السلطة، وأنك أيها الشعب السوري العظيم، إذا كنت بريء، ستخرج من سجنك ولو بعد مئة عام.