بدكن ديمقراطيييي؟

2021.12.03 | 04:56 دمشق

0016.jpg
+A
حجم الخط
-A

في يوم من الأيام أحببتُ، وأنا أخوكم، أن أتفلسف، فقلت، وكتبتُ إن مجتمعنا غير ديمقراطي، والأصح أن تركيبته لا تتناغم مع الديمقراطية، لأسباب كثيرة، أهمها أن الديمقراطية مفهوم وافد، يوناني الأصل، أوروبي أميركي التبني والتطبيق، وغير نابع من عمق ثقافتنا العربية الإسلامية، ولو كان الأمر كذلك لعلَّمنا أهلونا مبادئها في الصغر (لتكون كالنقش في الحجر)، وعليه فإن هذا المصطلح كلما ذُكر يحتاج إلى تعريف، وشرح.. 

ولأن مجتمعنا غير ديمقراطي؛ فهو طاردٌ للنخب الليبرالية الديمقراطية المتنورة، وفي الوقت نفسه محتضن للذين تنسجم طروحاتهم مع السائد والمستقر من المفاهيم، لا أقول هذا الكلام في معرض الانتقاد والذم، بل هو أقرب إلى التوصيف، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها الحادثة (الطرفة) التي رواها المفكر الإسلامي الراحل نصر حامد أبو زيد، خلال مقابلة له على محطة (LBC) سنة 2000، أي بعد خمس سنوات من صدور الحكم الشهير عليه بطلاق زوجته، واضطراره للخروج من مصر ليقيم في هولندا معززاً مكرماً مع زوجته ابتهال.. ملخص الحادثة (الطرفة) أن أحمد لطفي باشا السيد (1872- 1963) الذي يحمل ألقاباً كثيرة منها أبو الجيل، وأفلاطون الأدب العربي، وأبو الليبرالية المصرية، رشح نفسه في منطقته، محافظة الدقهلية، لعضوية البرلمان المصري، وكان ينافسه رجلٌ من ملاكي الأراضي، لا يحمل أي ثقافة أو مؤهلات علمية، وخلال الحملة الانتخابية راح المنافس يحذر الناس من انتخاب أحمد لطفي السيد، لأنه ديمقراطي، يتبنى الديمقراطية. سأله رجل من جمهور الناخبين: ديمقراطية يعني إيه؟ فقال: معناها ببساطة إن مراتك تبقى مراتي!... وفي رواية أخرى، أن بعض أنصار الثابت والمستقر قالوا إن الديمقراطية تعني، ببساطة، أن تتزوج المرأة أربعة رجال! وعندما قال أحمد لطفي السيد: أؤمن بالديمقراطية حتى آخر يوم في حياتي، هوجم سرادقه، وأضرمت فيه النار.

إذا ألصق هذا الزائر أذنه على راديو من النوع الذي يسميه المطرب الفلسطيني الراحل عبد الله حداد "ترانزيستور"، لا يمكن أن يسمع أغنيات تمتدح الرؤساء، وتسبغ عليهم صفات هم في الواقع يتحلون بنقيضها تماماً

لو قيض لإنسان قادم من المنطقة العربية أن يتسلح بفيزا مفتوحة، ويسافر إلى دول العالم المتقدم، كلها، ويقيم في كل دولة منها سنة كاملة، ويجلس، خلال السنة، أمام القنوات التلفزيونية التابعة لتلك الدولة أربعاً وعشرين ساعة من أصل أربع وعشرين، يستحيل أن يشاهد عرضاً عسكرياً لما تملكه تلك الدولة من قوات برية وبحرية وجوية، والقادة يلتفتون إلى اليمين ليحيوا القائد العام الذي يبقى ساعة رملية وهو في وضعية رد التحية على العلم أنه يفهم في العلوم العسكرية بقدر ما يفهم محسوبكم من أسرار النترونات والإلكترونات.. أو أن يشاهد على قناة أخرى إعلاناً للتطوع في الكليات الحربية والبحرية والجوية، يقوم خلاله الجنود بأعمال تدريبية شاقة، ترافقها أغنية بكتب اسمك يا بلادي، وفيها فقرة مرعبة، تُظهر دائرة من النار منصوبة على حامل يرتفع عن الأرض مقدار متر، ويركض الجنود وراء بعضهم بعضاً، ويدخلون في قلبها، دون أن تحترق ثيابهم وأجسامهم.. أو يشاهد، ذلك النفرُ الزائر، مهرجاناً خطابياً ينتظم فيه الخطباء في طابور، وكأنهم واقفون على باب فرن، وكلما نادى عريف المهرجان على واحد منهم، يُشهر ورقة أكبر من ملحفة اللحاف، ويهجم على الميكروفون بطريقة قاتل أو مقتول، ويبدأ بإطلاق الشعارات الرنانة، والمدائح الطنانة، وأعين الحاضرين تتركز على مؤخرته لاعتقادهم أن هذا العَصّ على النفس لا بد أن يولد دخاناً يخرج من الإشكمان! وإذا تغلغل، الزائر، بين الناس، في الدولة التي يقيم فيها، يستحيل أن يرى رجلين يتشاجران، لأن أحدهما احتال على الآخر، أو نظر إلى شقيقته نظرة خبيثة، أو لأنه كتب بحقه تقريراً للمخابرات سبب له استدعاءات واعتقالات وضرباً على قدميه بالكابل الرباعي داخل دولاب التركتور، ثم يأتي أقارب هذا القبضاي، وأقارب ذاك الشجاع، وتتحول المشاجرة إلى ملحمة جماعية، تُسحب خلالها السكاكين الكندرجية والشنتيانات وخشبات القبان، والمسدسات والروسيات، يروح فيها شوية قتلى، ناهيك عن الجرحى والمكسرين والمرضوضين والذين تحولوا من تلك اللحظة إلى أصحاب عاهات دائمة، ولا تنتهي المشاجرة في أرضها، بل تنشأ بين حاملي كنية القبضاي الأول وكنية الشجاع الثاني ثارات وعداوات يعبر عنها أحفادهم، على نحو غبي، مستخدمين المثل القائل: عدو جدك ما يودك.. 

ومن غير الوارد، بالطبع، أن يرى الزائر لبلد ديمقراطي أباً يصحب ابنه من يده مثل الخروف، حتى يصل المدرسة يوم افتتاحها، ويقول لمعلم الصف الأول الابتدائي "اللحم لك والعظم لنا".. لأن الأسرة في هذه المجتمعات، لا تستنفر عندما يبلغ الفطام لهم صبيٌّ تخر له الجبابر ساجدينا، بل يستنفرون، ويقومون عن بكرة أبيهم ولا يقعدون عندما يبلغ لهم صبيٌّ أو بنتٌ سن المدرسة، فيلبسون أجمل ما عندهم من ثياب، ويبخون أثمن عطورهم، ويذهبون برفقته (برفقتها) إلى المدرسة، وتحصل عملية تعارف بين الأهالي والأطفال والأهالي في طقس لا يوجد أجمل منه، ولا حتى العيد الرابع الذي كان يقوم يوم 17 من نيسان في صنوبر جبلة.   

وإذا ألصق هذا الزائر أذنه على راديو من النوع الذي يسميه المطرب الفلسطيني الراحل عبد الله حداد "ترانزيستور"، لا يمكن أن يسمع أغنيات تمتدح الرؤساء، وتسبغ عليهم صفات هم في الواقع يتحلون بنقيضها تماماً، أصلاً، هؤلاء الأوروبيون لا يوجد لديهم شيء اسمه الأغنية الوطنية أو القومية، وليس عندهم محمد مهدي الجواهري يكتب لهم يا حافظَ العهد يا طلاع ألوية ليأتي صفوان بهلوان ويضع فيها مقدرته الاستثنائية على التلحين الأوبرالي، ويطلقها لتضليل الناس، وإجبارهم على حب القائد الذي تقطر دماء أبنائهم من بين أصابعه.   

تفلسفتُ بهذا كله، ولم أذكر لحضراتكم أن أناساً من أهل السويد، مثلاً، خرجوا يطالبون بتطبيق الديمقراطية في بلادهم، فوقعوا في يد مجموعة من أسود الفرقة الرابعة، قبضوا عليهم، ووضعوهم في ساحة مستطيلة، بوضعية الاستلقاء على البطن، وصاروا يدوسون على ظهورهم بالأبواط العسكرية، ويسألهم رئيس المجموعة: بدكن ديمقراطييييي؟