بحصة الفنان عباس النوري

2022.02.07 | 05:35 دمشق

4376370_1452609506.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعبّر النكات السياسية عن الشعور الجمعي لمجتمع أفراده محرومون من التعبير عن آرائهم لهذه الدرجة أو تلك، فالنكتة تفصح عن الممنوع بوساطة التلميح على نحو غير مباشر، في حين تكشف فلتات اللسان عن المُضمر من آراء تم طردها إلى اللاوعي لخطورة الإفصاح عنها، وهما وسيلتان ضروريتان للتنفيس وتخفيف الاحتقان في المجتمعات المحكومة بالاستبداد. وفي كلتا الحالتين، يمكن للمرء التهرب من المسؤوليات والعواقب إلى حدٍّ ما، فالنكتة فعل جماعي يصعب الوصول إلى مُطلقها، في حين يمكن التملص من فلتات اللسان بالاعتذار وما شابه.  

الأخطر من ذلك، بالنسبة للسلطة، هو مسارعة ممثل آخر يتمتع بشعبية مماثلة، أيمن زيدان، للتضامن مع زميله وإسناد رأيه

لكن، وبخلاف الحالتين السابقتين، عبّر الفنان عباس النوري، في مقابلته على "راديو المدينة"، عن رأيه بصورة صريحة وفصيحة لا تقبل التأويل والتفسير، معتقدًا أن مكانته، كممثل محبوب من الصف الأول، تمنحه الحصانة وتُنجيه من المساءلة، لا سيما وأن مواقفه، على العموم، ليست متصادمة مع سياسات المنظومة الحاكمة. لقد طرح النوري فكرتين تنسفان مرحلة بكاملها، كسبيل قاد سوريا إلى ما آلت إليه من كوارث؛ أقصد تصريحه حول دور العسكر في تاريخ سوريا ومقارناته بين دخل السوريين وبين الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وهما قضيتان حساستان جدًا بالنسبة للسلطة ولا يمكن التراجع عنهما بسهولة، مهما حاول الممثل الموهوب أن يناور ويداور في مقابلته الثانية مع المحطة نفسها. لقد وصلت الفكرة، ومع أنها معروفة للكثيرين، فإن أهميتها ترتبط بشخص مَن نطق بها، ومن خلال وسيلة إعلام رسمية أو شبه رسمية.

الأخطر من ذلك، بالنسبة للسلطة، هو مسارعة ممثل آخر يتمتع بشعبية مماثلة، أيمن زيدان، للتضامن مع زميله وإسناد رأيه، ما كان يمكن أن يقود إلى سلسلة من التداعيات. وسواء تعلق الأمر بخطورة انتقاد تصريحاته من قبل موالين يعبرون عن رأي جهات نافذة، أو أنه قرر بنفسه تعديل ما جاء على لسانه، سارع النوري إلى محاولة لفلفة الموضوع ببراعة الممثل المحترف، وفي الذاكرة الجماعية، وذاكرته جزء منها، تلك الخطوط الحمر التي ما تزال حاضرة ولو بهت لونها، وأن من يتجرأ على التعبير عن رأيه من دون مراعاتها يجب أن يدفع الثمن، معنويًا على الأقل، أو أن يضحي بجزء من كرامته.

لكن، لماذا يُمنع الناس من التعبير عن آراء أضحت معروفة على نطاقٍ واسع، وقد عملت وسائل التواصل الحديثة على اختراق جميع الحواجز ومحو المسافات؟ على الأرجح هي سياسة الحفاظ على ما تبقى، من خلال حجب المعرفة، على أمل الاستمرار أطول فترة ممكنة في سياسة التجهيل، لنتذكر أن موقع موسوعة الويكيبيديا محظور في سوريا.    

من أجل ما سبق، يجري تحديث طريقة العمل من دون تعديل آليات التفكير، ومنها الإيحاء بأن ثمة حرية في تناول موضوعات كانت بحكم المحظورة، لكن مع تمييع المحتوى، طالما أنه ليس بالإمكان منع تبادل المعلومة ونشرها، وبالاعتماد على كوادر إعلامية شابة غير مشبعة بالأيديولوجية من الجيل الثالث لمرحلة الاستبداد. إنه ضرب من الإيهام بأن ثمة حرية في التعبير عن الرأي، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الثانوية، ونوع من السماح بحرية "التململ" في الهامش الضيق المتاح حول الهيكل شبه المتداعي. من جهة ثانية، ونظرًا لعدم إمكانية تجاهل الرأي العام، ولو في المجال الافتراضي، يجب أن يبدو الأمر وكأنه مجرد توضيح لوجهة النظر التي تم التعبير عنها بمزيد من الوضوح، وأن صاحبها مقتنع بذلك بلا إكراه!

في كل الأحوال، باتت الإجراءات التعسفية المعمول بها أكثر حذرًا، والأهم بالنسبة لمن يمسكون بخيوط اللعبة ألا يحدث شيء من التضامن الذي لا يمكن التنبؤ بعواقبه، سواء من قبل زملائه والمعجبين به وغيرهم، في محاولة لسدّ منفذ آخر قد تتسرب منه المياه الراكدة، الأمر الذي يصعب التحكم به أحيانًا، كما حدث في "انفجار" العام 2011.

المسألة باتت لا تتعلق فقط بأن العصا المسلطة فوق رؤوسنا ممسوكة بيد منفصلة عن ذواتنا فحسب، إنما بُتنا نحملها طواعية ولا نستطيع التخلي عنها بسهولة، نتفقدها في كل خطوة ونخاف عليها، وربما نحملها خارج حدود "القفص"؛ إنها مرضنا النفسي وخلاصنا المقلوب، خاصة بالنسبة لمن عاش معظم حياته تحت رحمتها. في هذه الحالة، لم يعد ينفع شيء، حتى المكتوب في الدساتير والقوانين يبقى مجرد حبر على ورق، فدور حزب البعث، على سبيل المثال، لم يتغير بإلغاء المادة الثامنة في دستور 2012، وما زالت شعاراته تتردد في باحات المدارس، كصرخات سوريالية بائسة.

بعد كل ما حصل في سوريا، فإن الطريقة ذاتها ما تزال متّبعة في التعامل مع الرأي الآخر، في الوقت الذي لم تعد فيه غالبية الشعب قادرة على تأمين أبسط وسائل استمرار الحياة

لقد انسحبت اليد التي تحمل العصا لتدير كل التفاصيل من مسافة "آمنة"، تفصلها عنا دوائر ومؤسسات دولاتية تنوب عنها، لكنها تتمثل صورتها ونهجها وتوجيهاتها، ومعززة بحلفاء معاقين فكريًا وسياسيًا، من أصغر مخبرٍ إلى آخر بكداشي، في محاولة لتمييع وتحطيم ما تبقى من إرادة الحياة والحرية. وإنها لمفارقة أليمة، بعد كل ما حصل في سوريا، أن الطريقة ذاتها ما تزال متّبعة في التعامل مع الرأي الآخر، في الوقت الذي لم تعد فيه غالبية الشعب قادرة على تأمين أبسط وسائل استمرار الحياة، فضلًا عن الاحتلالات متعددة الجنسيات للأرض والإرادات، وتهشيم الحدود واستباحتها، وفرض قوى الأمر الواقع على كامل مساحة سوريا، فصار ثمة دويلات داخل الدولة، وقرارات لا نعرف في مصلحة أي جهة تصب، سوى أنها تبتعد عن مصالح سواد الشعب.