أخذ مفهوم حقوق الإنسان موقعا مركزيا في خطاب السياسة الخارجية لإدارة بايدن، فبالنسبة له حقوق الإنسان تشكل قيمة "أميركية" يجب الدفاع عنها، ولذلك صاغ وزير خارجيته خطاب السياسة الخارجية حول هذا المفهوم، وفي الحقيقة هذا يمثل مفارقة كاملة عن خطاب السياسة الخارجية في عهد ترامب الذي اعتبر أن السياسة الواقعية تضمّنت عدم الاكتراث بمفهوم حقوق الإنسان في السياسة الخارجية والتركيز على مفهوم السيادة ومبدأ أميركا أولا في تعاملاتها السياسية الخارجية.
وتم تطبيق هذا المفهوم على مستوى السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط على مستوى وقف التعاون مع السعودية في حرب اليمن بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان هناك، ومؤخراً حجب أكثر من 150 مليون دولار من المعونة الأميركية إلى مصر بسبب انتهاكات حكومة السيسي لحقوق الإنسان، بالمقابل انتقد بعضهم الازدواجية الأميركية في عدم إيلاء الموضوع الفلسطيني كأولوية على مستوى حقوق الإنسان واتهمت حينئذ الإدارة الأميركية بالمعايير المزدوجة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل في عدم محاسبتها على الجرائم التي ارتكبتها في غزة خلال حربها هناك بداية هذا العام.
من الوهم الاعتقاد أن السياسة الأميركية كانت دوماً تضع حقوق الإنسان كهدف رئيسي في سياستها الخارجية، بل وربما في أحيان كثيرة كانت حقوق الإنسان إحدى ضحايا هذه السياسة
بالمقابل تشكل محورية حقوق الإنسان في خطاب بايدن الخارجي اختلافا كليا عن وزارة الخارجية في عهد الرئيس ترامب، إذ تم إسقاطه كلياً من السياسة الخارجية الأميركية، وهو ما عاد بالكثيرين إلى التأكيد على أنه من الوهم الاعتقاد أن السياسة الأميركية كانت دوماً تضع حقوق الإنسان كهدف رئيسي في سياستها الخارجية، بل وربما في أحيان كثيرة كانت حقوق الإنسان إحدى ضحايا هذه السياسة.
لكن هذا لم يمنع من تركيز الولايات المتحدة دوماً على الحاجة إلى تحسين حالة حقوق الإنسان في العالم، وخاصة في دول المنطقة العربية، لكن مع ترامب اندثرت هذه السياسة تماماً، إذ بنى أفضل العلاقات مع السيسي الذي وصفه بأنه "دكتاتوره المفضل" ودعم السعودية بلا حدود في حربها في اليمن، وأصبحت الشعبوية في الحمائية الاقتصادية هي من يحدد بوصلة سياسة الخارجية الأميركية خلال سنوات ترامب.
إنّ تضمين حقوق الإنسان في السياسة الأميركية وتوجهاتها يلعب دوراً في توجيه دفة السياسات المحلية والوطنية داخل أميركا وخارجها، وخاصة في منطقتنا العربية التي تشهد حالة حقوق الإنسان فيها وضعاً كارثياً لا تحسد عليه، فعندما يتبنى المجتمع الدولي (والولايات المتحدة هي اليوم أقوى معبر عن إرادة هذا المجتمع) سياسة تعتمد على احترام حقوق الإنسان ومبدأ تعزيز الشفافية ونشر الديمقراطية تسعى الحكومات المحلية للتكيف – ولو بشكل مصلحي ومؤقت- مع أجندتها السياسية مما يكون له دور فاعل في تقوية وتعزيز نشاط المجتمع المدني الذي يرتكز في مبادئه على هذه المقولات ويستند إليها.
بنفس الوقت ربما يعتقد بعضهم أن الاستخدام المصلحي للولايات المتحدة لمفهوم حقوق الإنسان والديمقراطية خاصة بعد حرب العراق وفشل الولايات المتحدة في العثور على أسلحة الدمار الشامل أساء للمفهوم وعقد المهمة أمام الديمقراطيين وناشطي حقوق الإنسان العرب. هذا صحيح بنسبة كبيرة لكن بنفس الوقت علينا أن نتذكر دوما أن بقاء مفهوم احترام حقوق الإنسان في صلب النقاش الدولي أفضل بكثير من إلغائه تماماً لحساب مفاهيم الحرب على الإرهاب والشعبوية السياسية.
فخلال فترة حكم الرئيس بوش الابن برز تيار داخل الولايات المتحدة رأى أن الديمقراطية التي تسعى إدارة الرئيس بوش إلى إقرارها في المنطقة العربية، وتخصص من أجل نشرها جهودا ومبالغ هائلة، قد لا تكون بالضرورة في مصلحة الولايات المتحدة في الأجل المنظور، ذلك أنها قد لا تفضي بالضرورة إلى وجود حكومات أو أنظمة حليفة لواشنطن بالتزامن مع الإبقاء على التنسيق المستمر والإستراتيجي مع واشنطن من أجل دعم وصيانة مصالحها، وكانت آخر انتخابات شهدتها بعض الدول العربية خاصة في فلسطين ومصر خلال العامين 2005 و 2006، وكان للتيارات الإسلامية وخاصة صعود حركة حماس وقتذاك انعكاسات كبيرة على فكرة الدمقرطة في المنطقة العربية من وجهة النظر الأميركية، حيث كانت نتيجة إجراء تلك الانتخابات في أجواء تتمتع بقدر لا بأس به من النزاهة والديمقراطية، أن حملت إلى مواقع السلطة والحكم والتشريع في هذه الدول أشخاصا ذوي توجهات مناوئة للولايات المتحدة الأميركية أو أفكار راديكالية إسلامية، وهو الأمر الذي وضع الالتزام الأميركي بشأن نشر الديمقراطية في تلك المنطقة حينئذ من العالم على المحك، إذ ثار حينذاك جدل داخل الدوائر السياسية والأمنية الأميركية حول المفاضلة بين الديمقراطية في العالم العربي من جهة، والمصالح الإستراتيجية الأميركية في تلك المنطقة من جانب آخر.
وهي نفس المفارقة التي حملتها ثورات الربيع العربي، ودفعت بسياسيين بارزين مثل المرشح السابق كروز لتبني فكرة دعم الدكتاتوريات في المنطقة العربية على حساب احترام القيم الأميركية وحقوق الإنسان لأن ذلك سوف يقود إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة في المنطقة العربية.
أنفقت الولايات المتحدة على كل مواطن في الشرق الأوسط منذ حوادث 11 سبتمبر 2001 ما قيمته 0.8$ أي أقل من دولار واحد
بكل الأحوال تبدو مساهمة الولايات المتحدة في نشر الديمقراطية في المنطقة العربية ضئيلة للغاية مقارنة مع مجموع المبالغ التي صرفتها الإدارة الأميركية لنشر الديمقراطية للإنفاق على برامج دعم الديمقراطية في دول أوروبا الشرقية بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة. وعلى سبيل المثال فقد أنفقت الولايات المتحدة في أول خمس سنوات بعد انتهاء الحرب الباردة ما قيمته 4.264$ مليارات دولار على برامج دعم الديمقراطية في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وبصورة أخرى كان نصيب الشخص الواحد في الجمهوريات السوفييتية من مخصصات الولايات المتحدة ما قيمته 14.6$، في حين أنفقت الولايات المتحدة على كل مواطن في الشرق الأوسط منذ حوادث 11 سبتمبر 2001 ما قيمته 0.8$ أي أقل من دولار واحد.
لعل ذلك يحمل مؤشراً على مدى "الجدية" الأميركية في نشر الديمقراطية خلال العشر سنوات الماضية وخاصة في ظل تصاعد ثورات الربيع العربي وازدياد الحاجة إلى فكرة دعم التحول الديمقراطي في المنطقة.