بايدن والفهم الخاطئ لـ "خطوة مقابل خطوة"

2022.02.18 | 05:40 دمشق

24832309.jpg
+A
حجم الخط
-A

بدأت فكرة "خطوة مقابل خطوة" حين أصدر "مركز كارتر" الأميركي ورقة سياسات تضمنت اقتراح خطوات تبادلية بين "المطلوب" من موسكو وحلفائها، و"المعروض" من واشنطن وحلفائها، فيما يخص الشأن السوري، وفي قطاعات محددة، بينها إعفاء جهود محاربة وباء كورونا من العقوبات، وتسهيل إعمار البنى التحتية كالمستشفيات والمدارس، وتخفيف تدريجي للعقوبات الأميركية والأوروبية، في المقابل، أن تقوم روسيا بإقناع النظام السوري بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتأمين العودة الآمنة للاجئين، وضمانها لوصول المساعدات من دون أي عوائق إلى كل المناطق، والتخلّص مما تبقى من الأسلحة الكيماوية بموجب اتفاق عام 2013، وتنفيذ الإصلاحات السياسية والأمنية، والموافقة على المضي قدماً بالمسار السياسي الذي حدده القرار الأممي 2254 برعاية الأمم المتحدة.

بدوره، راهن المبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسن، على تفعيل مقاربة "خطوة مقابل خطوة"، وطالب وزراء خارجية الدول الغربية الكبرى بتحديد الخطوات المطلوبة من دمشق مقابل تلبية خطوات تطلبها دمشق، وأن نقطة البداية، هي الشروع في مناقشات حول حزمة من "الخطوات الصغيرة الملموسة"، تكون متبادلة ومتوازية، وهو ما لم يتحمس له وزراء الخارجية، الذين شددوا على أنهم لن يقوموا بخطوات في إعادة الإعمار أو التطبيع أو رفع العقوبات، مقابل خطوات هامشية يقوم بها النظام السوري ويمكن له التراجع عنها، أي أن هذه الدول بقيادة أميركا، يمكن أن تقبل بعض الخطوات الصغيرة، مثل عدم فرض عقوبات جديدة، وإعطاء استثناءات من العقوبات لأمور إنسانية، والإقدام على خطوات تطبيعية جزئية، مقابل خطوات جوهرية واضحة تساهم في الوصول إلى الحل السياسي وفق القرار 2254 وليس أقل من ذلك.

بدا واضحاً أن الإدارة الأميركية فتحت بازار "خطوة مقابل خطوة" مع روسيا، ودخلت القضية السورية متاهة جديدة لم ولن تتضح أبعادها إلا بمرور وقت ليس بقليل

بعد اجتماع الرئيسين الأميركي والروسي في يونيو 2021، وإعلانهما عن نيّتهما التعاون بما يخص سوريا، واستعدادهما للتراخي كل طرف مع الآخر بهذا الشأن، ومن بعدها بشهر عدم استخدام روسيا الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار يجدد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى شمال سوريا عبر معبر باب الهوى على الحدود السورية – التركية، بدا واضحاً أن الإدارة الأميركية فتحت بازار "خطوة مقابل خطوة" مع روسيا، ودخلت القضية السورية متاهة جديدة لم ولن تتضح أبعادها إلا بمرور وقت ليس بقليل.

منذ ذلك الوقت، تتالت المؤشرات التي تؤكد أن إدارة بايدن اتّخذت قرارها بالسير بالملف السوري بشكل مختلف عن مسار السياسة الأميركية المُعلنة خلال السنوات الأخيرة، فقد وافقت إدارة بايدن على توقيع الأردن ومصر اتفاقية مع النظام السوري لمدّ لبنان بالغاز والكهرباء عبر الأراضي السورية، في مخالفة صريحة لقانون العقوبات "قيصر"، وغضّت الطرف أيضاً عن لقاءات بين وزراء تلك الدول ونظيرهم في حكومة النظام السوري على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصمتت عن إعادة تفعيل عضوية النظام السوري في منظمة "الأنتربول"، ولوّحت بنيّة الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا، ووقفت على الحياد من عدم منع مسؤولين عرب من دول حليفة للولايات المتحدة من التطبيع مع النظام السوري، واستبدلت بـ"رفض التطبيع" "عدم تشجيع التطبيع"، وأوقفت تمديد عمل شركة "دلتا كريست" في التنقيب واستخراج النفط من الآبار الموجودة في شرق سوريا، ولم تقم بتعيين مبعوث خاص لسوريا خلافاً لما كانت تعمل عليه الإدارة السابقة، وصدرت تصريحات علنية من أميركا (مبعوث مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك) تقول بتخليها عن "تغيير النظام" في سوريا، وصارت هذه الفكرة ركناً أساسياً من سياسة إدارة بايدن، وتقلّصت أهداف إدارة بايدن إلى هزيمة "داعش"، وأخيراً، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية إعفاءات تتعلّق ببعض الأنشطة والمعاملات مع سوريا بموجب "قانون قيصر"، ووسّعت نطاق التفويض للمنظمات غير الحكومية العاملة في سوريا، وسمحت لها بالقيام ببعض المعاملات مع النظام السوري، تحت غطاء الدعم الإنساني (تمويل المؤسسات الأممية لمشاريع "التعافي المبكر" في قطاعات التعليم والصحة والمياه).

صدرت تصريحات علنية من أميركا (مبعوث مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك) تقول بتخليها عن "تغيير النظام" في سوريا

إذاً، فقد عدّلت إدارة بايدن قانون العقوبات المفروض على سوريا دون العودة إلى مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ويُخشى أن تسير بسياسة جديدة مختلفة في سوريا، قوامها "الخطوات مقابل لا شيء"، "خطوات" تعرضها الولايات المتحدة، مقابل "ولا خطوة" يقدّمها النظام السوري، وصارت هناك قناعة لدى المعارضة السورية بأن سياسة بايدن ستقود في نهايتها إلى السير بمشروع موسكو لدعم النظام السوري والعودة إلى ما قبل 2011، والاكتفاء بحل سياسي إصلاحي شكلي لتنفيذ القرار 2254.

عدّلت إدارة بايدن قانون العقوبات المفروض على سوريا دون العودة إلى مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ويُخشى أن تسير بسياسة جديدة مختلفة في سوريا، قوامها "الخطوات مقابل لا شيء"

المشكلة الأساس أن الرئيس بايدن تبنّى اقتراح "مركز كارتر" بشكل منقوص، فأساس هذا الاقتراح أن تُطبّق كل خطوة بعد التفاوض عليها، ويتم التحقق من تنفيذها كاملة بشكل ملموس، قبل الانتقال إلى الخطوة التالية، لكن إدارة بايدن تقفز إلى الخطوات التالية وهي تعرف أن ما سبقها من خطوات لم يُنفّذ أو يتحقق، ما رسّخ قناعة لدى كثيرين بأن مقاربة كهذه تعني بداية التطبيع مع النظام السوري ورفع العقوبات عنه، وبداية طريق الإعمار من دون تنازلات من الأسد، وتأهيل النظام السوري من جديد ليحكم سوريا بغض النظر عن مسؤوليته عن سقوط مليون من الضحايا، ومسؤوليته عن تحويل سوريا إلى دولة شبه فاشلة.

حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة قبل بايدن، عبر حوارات ثنائية وتفاهمات بين واشنطن وموسكو، انتهاج سياسة "العصا والجزرة" مع النظام السوري عبر حليفه الروسي، لكن تلك السياسات لم تُحقق اختراقات ذات معنى، بل أضعفت المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، وقلّصت الدعم الإنساني للمناطق خارج سيطرة النظام، وأعاقت أي تقدّم في عمل اللجنة الدستورية، وسمحت للنظام السوري بالتمادي، كما سمحت لإيران بالتمدد في عمق المجتمع والاقتصاد السوري.

حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة قبل بايدن، عبر حوارات ثنائية وتفاهمات بين واشنطن وموسكو، انتهاج سياسة "العصا والجزرة" مع النظام السوري عبر حليفه الروسي

تمتلك واشنطن أوراق قوة وضغط في سوريا، لكنها لم تعد تستخدمها في عهد بايدن، منها قواعدها العسكرية في شرق سوريا، وقانون "قيصر" الذي يمنع كل دول العالم من التعامل مع النظام السوري، و"فيتو" رفض إعادة الإعمار الذي لم تجرؤ أي دولة على تجاوزه، ثم القرار الأممي 2254 الذي يُعطي الولايات المتحدة حجة إضافية لتضغط على دول العالم لاحترامه.

السلبية وعدم الاكتراث التي وُصفت بها سياسة أوباما، وبعد ترامب، في تعاملهما مع الملف السوري، ليست سلبية مقارنة بما توصف به سياسة بايدن، لأنها، فضلاً عن أنها غير مكترثة، هي أكثر خطراً على السوريين، لأنها تريد تقديم المكافآت للنظام السوري بخطوات متابعة، وقدّمت بعضها بالفعل، دون أن تحصل على أي مقابل من النظام السوري أو روسيا، ما يدعو للاعتقاد بأن بايدن فهم سياسة "الخطوة بعد خطوة" بأنها ليست "خطوة روسية" مقابل "خطوة أميركية"، وإنما اقتراب موقف الولايات المتحدة من موقف روسيا خطوة بعد خطوة، ليتماهى الموقف الأميركي مع الموقف الروسي ويذوب به، ما سيقود إلى مشكلات لا تُحمد عقباها في الشرق الأوسط كلّه.