بأيّ ذنبٍ قُتلتْ؟

2019.09.04 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

من الظواهر العامة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، والتي تشكّل مع غيرها من الظواهر ما يسمّى "طبيعة المجتمع" أو "خصوصيّته"؛ ظاهرة اضطهاد المرأة وتقييدها وحراستها وأحياناً قتلها بذريعة "الشرف". وهذه الظاهرة كمعظم ظواهرنا المجتمعية الطافية، تشي بكثيرٍ من الجهل والتخلّف والعنف وقلّة الشرف، وكذلك بغياب الدولة الحديثة ومعها العدالة القضائية.

ولفهم أسباب انتشار هذه الظاهرة المؤلمة لكل إنسان طبيعي، وأعني ما يسمّى "جرائم الشرف"، يجدر النظر في عدة أمور مختلفة، لا رمي المسؤولية على القانون أو الدين أو المجتمع أو العادات... دون تدقيقٍ وتمحيص. وسأحاول في هذا المقال أن أقارب الأسباب المختلفة لانتشار هذه الظاهرة، معتمداً في الجانب القانوني على القانون السوريّ وحده، لأنني لا أعرف سواه.

في البداية لا يوجد شيء في قانون العقوبات السوري اسمه "جريمة شرف"، وبالتالي لا يجوز تحميله وِزْر هذه التسمية التي لم يستخدمها. توجد في القانون "جريمة قتل" و"جريمة إيذاء" و"جريمة سرقة"... ويوجد في مكان آخر ما يعرف بالأعذار الـمُحِلَّة والأعذار الـمُخفِّفة للعقوبة، ومن هذه الأعذار المخفِّفة ما يسمّى بـ "الدافع الشريف" (المادة 192)، ويبدو أنه قد حدثَ تزاوُج غير شرعي بين كلمتي "جريمة" و "شرف" فنشأ لدينا هذا المصطلح الشاذّ، فهو يخلط بين الجريمة كفعلٍ شائن والشرف كقيمة نبيلة، فلا يمكن لأيّ جريمةٍ أن تكون شريفة، ولا يمكن للشرف أن يدفع إلى جريمة.

هذا لا يعني أن قانون العقوبات السوريّ بريءٌ من ذلك، فالمشكلة الحقيقيّة تبدأ مع المادة (548) المأخوذة من قانون العقوبات الفرنسيّ عام 1949 (لا من الشريعة الإسلامية، ولا من العادات الاجتماعية). وبينما أعطى المشرِّع الفرنسي العُذرَ الـمُخفِّف لفاعل الجريمة، فقد توسَّع الـمُشرِّع السوريّ وأعطاه العُذر الـمُحِلّ! ثم تعدّلت المادة في عام 2009، فألغتِ العُذرَ الـمُحِلّ ووضعتْ مكانه العذر الـمُخفِّف، على ألّا تقلّ عقوبة الجاني عن الحبس لمدة سنتين في حال أدّتِ الجريمةُ إلى وفاة المجني عليها. يقول نصّ المادة (548) بعد التعديل: "يستفيدُ من العذر المخفّف من فاجَأ زوجَه أو أحدَ أصُوله أو فُروعه أو أختَه في جُرم الزنا المشهود أو في صلاتٍ جنسيّة فَحْشاء مع شخص آخر، فأقدمَ على قتلهما أو إيذائهما أو على قتلِ أو إيذاءِ أحدهما بغيرِ عمد، على ألا تقلَّ العقوبةُ عن الحبس مدة سنتين في القتل". ومن نصّ المادة نفهم روح التشريع وغايته، والسببَ الذي دفعَ الـمُشرّع الفرنسيّ ثم السُّوريَ إلى تبنّيها، ألا وهو عنصرُ المفاجأة

نستنتج من تحليل المادة القانونية أنّ الجاني الذي تصلُه وشايةٌ عن واحدةٍ من قريباته؛ فيذهبُ بعد ذلك لإيذائها أو قتلها، لا يستفيدُ من أيّ عذرٍ مُخفِّف، وجريمتُه هي جريمةُ "قتل قصد" أو "قتل عمد"

الذي يفجّرُ في الشخص سَورةَ غضبٍ تجعلُه عاجزاً عن التفكير السليم، فيرتكبُ جريمته على الفور، وقبل أنْ يَعي ما يحدث لهُ أو يجري أمامه. ولم يكنْ في ذهن الـمُشرّع الفرنسي والسوريّ أيُّ شيءٍ يتعلّق بـ "الشرف" أو "العادات" أو "الدين"، الموضوعُ كلُّه يتعلّق بالحالة النفسيّة للشخص الذي يتعرّض -فجأةً- لصدمةٍ من هذا النوع.  ولهذا تقول المادة "بغيرِ عَمْد"، والعمد هو النيَّة الجُرمية الـمُبيّتة منذُ مدةٍ تزيدُ عن أربعٍ وعشرينَ ساعة.

نستنتج من تحليل المادة القانونية أنّ الجاني الذي تصلُه وشايةٌ عن واحدةٍ من قريباته؛ فيذهبُ بعد ذلك لإيذائها أو قتلها، لا يستفيدُ من أيّ عذرٍ مُخفِّف، وجريمتُه هي جريمةُ "قتل قصد" أو "قتل عمد" تِبْعاً اللحظة التي تشكّلتْ فيها النيّةُ الجُرمية لديه. وكذلك الجاني الذي يقتلُ أختَه أو بِنته لأنها هربتْ مع حبيبها، أو لأنها تزوّجتْ شخصاً من دينٍ آخر أو مذهبٍ آخر؛ فهو أيضاً لا يستفيدُ من أيّ تخفيف، وجريمتُه جريمةُ قتلٍ شائنة وبعيدة كلّ البُعد عن أيّ شرف. وبالتالي فإن معظم هذه الجرائم التي تقع في بلادنا، ينبغي ألّا يستفيد مرتكبوها من أيّ تخفيف قانوني في حال تمَّ تطبيق القانون بالشكل السليم. وهذا الرأي لا يعني أنني مع إبقاء هذه المادة، بل أنا مع إلغائها، فهي تميّز بين الجنسين بشكلٍ واضح، فتعطي للرجُل عُذراً واستثناءً لا تُعطي للمرأة مثله.

أما الشريعة الإسلاميّة التي باتتْ مثلَ شمّاعةٍ يعلّقُ عليها البعضُ كلَّ ما يرونه سلبيّاً أو متخلّفاً، فهي لا تبرّرُ أو تسمحُ بهذا النوع من الجرائم إطلاقاً. فمن أجل إقامة حدّ الزّنا في الشريعة، ينبغي المجيءُ بأربعة شهودٍ من الرجال أو ثمانية شهودٍ من النساء، يحلفون اليمين أمام القاضي بأنهم قد شاهدوا العملية الجنسيّة بأعيٌنهم (الـمِرْوَد في الـمِكْحَل)، وهذا حدٌّ من الصعب جداً توافُر شروط إقامته، إلا إذا كان الـمُتَّـهمان يَـزْنـِـيَـانِ على سطح البلدية! وأضيفُ أنَّ حدَّ الزّنا لغير المتزوّجين هو الجَلْدُ وليسَ القتل، وأنَّ إقامة الحدّ في الشريعة الإسلامية هو مِن اختصاص وليّ أمرِ المسلمين، أي القاضي الشرعيّ بعد سَماعه لإفادةَ الشُّهود، وليسَ من اختصاص والد الفتاة أو أخيها أو زوجها... البتّة.

إن معظم الجرائم الشنيعة التي يتذرّع أصحابُها بـ "الشرف"، هي جرائم ارتُكِبتْ في حقِّ نساءٍ تزوَّجنَ أو أحبَبْنَ رجالاً من دينٍ آخر، أو مذهبٍ آخر، أو جماعة إثنية أخرى. إذ نحنُ ما زلنا مجتمعاتٍ في المرحلة القَبَلية والإقطاعيّة، تعتبرُ المرأة مُلْكاً من أملاك الجماعة، وكأنها أرضٌ أو زرعٌ أو قطيعٌ أو شاة، وتعتبرُ ذهابَها زوجةً إلى الآخَـرِ الـمُختَلِفِ خسارةً للقَبيلة أو الإقطاعة!

في دولة بوليسيّة مثل سوريا، لا تكمُن المشكلة في النُّصوص القانونية إنْ كانتْ جيّدة أو سيّئة، فالمشكلة الجوهرية هي أنّ النصوص القانونية كلّها لا تُطبَّق! ففي الدولة البوليسيّة لا يعدو القانونُ عن كونه وسيلةً من وسائل تغوُّل السُّلطة، وأداةً من أدواتِ حُكمها. ولو كان نظام الأسد يُطبّقُ القانونَ السوريّ (بسَلبيّاته وإيجابيّاته) لَـمَا كانَ لظاهرةٍ مثلَ قَتْلِ النساءِ بحجّة "الشرف" أنْ تَنْتشر. لكنّ انتشارَ هذه الظاهرة

ينبغي إحداث تغيير في بنية نظام الأسد، فهو المسؤول عن تعليق القوانين على الرفّ منذ انقلاب آذار 1963. وليس شَتْم المجتمع والدين والعادات

مرتبطٌ بفَسَاد جهازِ الشُرطة، وفساد جهاز القضاء، وتواطُؤهما معاً في مسألة تخفيف عقوبة الجاني في هذا النوع من الجرائم، انسياقاً وراء العُرف والعادات أو الفساد. ولو كانت نساءُ سوريا محميّاتٍ بالقانون مثل نساء أوروبا الغربية والشمالية مثلاً، لما استطاع أحدٌ أنْ يتدخّل في خياراتهنّ الشخصيّة، ولا أن يفرض عليهنّ ما لا يُردنه، ولما تجرّأ كثيرٌ من الذكور على الاعتداء عليهنّ؛ لأنهم سينالُون بذلك جزاءَهم كمجرمين عديمي الشرف.

ومن أجل الحدّ من هذه الظاهرة المتخلّفة والمؤلمة، ينبغي إحداث تغيير في بنية نظام الأسد، فهو المسؤول عن تعليق القوانين على الرفّ منذ انقلاب آذار 1963. وليس شَتْم المجتمع والدين والعادات، ودعوة الناس إلى رميها أو التنصُّل منها. وحتى تغيير المجتمع -وهو أمرٌ حتميّ وواجب- لا يمكن أن يحدث من دون تغيير في النظام الحاكم، فهل يمكنك أن تُلغي الفساد -مثلاً- دون الـمَساس برؤوس النظام؟ وهل يمكنك أن تغيّر حالة حقوق الإنسان (بما فيها حقوق المرأة) من دون تغيير النظام الحاكم بسَطوة العُنف والبطش والإرهاب؟

لذلك فإن إلقاء مسؤولية هذه الجرائم على كاهل المجتمع والدين والمذاهب والعادات؛ هو حَرْف لبوصلة الحقيقة عن اتجاهها السليم. فالمسألة قانونية وقضائية من حيث الأساس، والمسؤول عنها هو النظام الحاكم. والنظام هو مَن يستطيع تغيير المجتمع نحو الأمام أو الوراء، عن طريق سنّ قوانين عادلة أو جائرة، والسَّهر على تطبيقها أو إبقائها حبراً على ورق.

كلمات مفتاحية