انتخابات الأسد والعبودية الطوعية

2021.05.30 | 06:26 دمشق

gggg_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعل ما يلفت في هذا العنوان تناقضه مع الطبيعة البشرية، فلم تكن العبودية يوماً طوعية، لأن الإنسان يخلق بفطرته حراً، إلا أن ما يثير الدهشة تطور العبودية القسرية، التي يمارسها الطغاة على الشعوب وتدجينها، لتصبح العبودية طوعية عندهم.

والعبودية الطوعية عنوان للكاتب الفرنسي إيتيان دولا بويسي في كتابه "مقال في العبودية الطوعية" فكيف نشأت العبودية في المجتمع السوري، وهل أصبحت عبودية طوعية؟؟ لم تكن مظاهر الحشود التي مُلئت بها الساحات في المدن التي يسيطر عليها نظام الأسد بالغريبة، أو الجديدة، فقد شهدت تلك الساحات أكثر من ذلك يوم تولى الوريث السلطة، عام 2000 بعد وفاة أبيه ووصوله إلى سدة الحكم، صحيح أن وصوله كان بعملية تزوير ممنهجة، واحتيال على الشرعية، وتوريث بطريقة قسرية، وتغيير للدستور وتفصيله على قياسه، إلا أن الكثير من السوريين فتنوا بخطابه أو قل كانوا في حالة من التنويم المغناطيسي، الذي أعمى عيونهم عن جرائم أبيه، طوال فترة حكمه، لكن ما يثير الغرابة الآن، توقيت هذه الجموع، وحجمها الكبير، بعد عشر عجاف مرَّ بها السوريون، أكلت منهم الأخضر واليابس، فلم تبقِ ولم تذر، من أموالهم، وأولادهم، وأملاكم، ومدنهم، ما يثير حالة من الاستغراب والاستهجان ومشهد لم يحصل، حتى في أعظم الدكتاتوريات التي عرفها التاريخ.. يمكن لك أن تفهم وجود الجموع المنتفعة والمرتزقة والمستفيدة من نظام الأسد، المتمثلة بالبعثيين، والموظفين، والمخبرين، والزبانية، إلا أنَّ ما يثير الدهشة، حجم المبالغة في التملق، والإسفاف، في العبودية الخالصة لطاغية تجاوزت جرائمه وانتهاكاته كل أشكال الإجرام والعنجهية، فيكف لك أن تفهم حالة الدبكة والفرح في قرية نائية بالكاد يستطيع سكانها تأمين لقمة عيشهم، وكيف لك أن تفهم هذا الإقبال على مراكز الانتخابات، في مجتمع يقضي أكثر يومه على طوابير الخبز والوقود، وكيف لك أن تفهم وجود هذه المظاهر من الترف والزينة، والحملات الانتخابية الممولة من جيوب التجار وشيوخ العشار وكبار الكهنة ومشايخ السلطان، في بلد يئن ويرزح تحت رحمة الفقر والجوع..

قد تكون الطاعة والولاء للحاكم إلى حد ما مفهومة، لكن كيف تُفسر تلك الحالة التي شاهدناها في ساحات دمشق وحلب حمص وحماة.

من الطبيعي أن يطيع الشعب بمن يحكمه لكن من غير الطبيعي أن يرزح شعب بأكمله تحت حكم فرد

يبدو أن هؤلاء لا يطيعون فحسب، بل يخنعون، ولا يساسون، بل يمتهنون، أموالهم ليست لهم، نساؤهم وأولادهم ليسوا لهم، حتى حياتهم ليست لهم، يتعرضون بوحشية مفرطة لأعمال النهب والسلب والفجور والعنف على يد شخص واحد، وبأدواته من المرتزقة والقوادين الذين هم جزء منهم، رجل يمكن القول إنه من أشباه الرجال ولا تتوفر له القدرة على قيادة الرجال، فكيف استطاع أن يطوع تلك الجموع بهذه الطريقة.. فمن الطبيعي أن يطيع الشعب من يحكمونه لكن من غير الطبيعي أن يرزح شعب بأكمله تحت حكم فرد لا قوة له ولا هيبة، فمن أين جاءت هذه النقيصة إلى شعب عرف بعزة النفس والكبرياء عبر التاريخ؟؟؟ ما يثير الدهشة وما لم نستطيع تفسيره، هو السؤال المحير كيف وصل الشعب إلى هذا المستوى من العبودية، لابد أن تلك العشر العجاف كان لها أثر كبير على خنوع تلك الجموع، وأن تلك المرحلة التي عاش فيها الناس كل أنواع الخوف والقتل والترويع كان لها الأثر البالغ في الوصول إلى هذه الحالة من التدني والانحطاط عبر سلسلة من التطورات التي عمل الأسد على ترسيخها منذ عصر أبيه، يقول إيتيان دولا بويسي في كتابه "مقال في العبودية الطوعية": "ينتشر الداء السياسيّ في ظلّ حكم طاغية ما انتشارا ضمن طبقات متعاقبة، فيتقرّب إلى المستبدّ خمسة من الطامعين أو ستة، ليصيروا متواطئين مع مطالبه تواطئاً مباشراً، لكن هؤلاء الستة ما يلبثون أن يصيبوا بالعدوى ستمئة من الأشخاص السلسي القيادة أو ذوو المنافع الكبرى، ليعود هؤلاء فيصيبوا ستة آلاف من المتزلّفين الطامعين، وهكذا حتى تصيب العدوى غيرهم من الطامعين الأذلاء، إنّ العيون التي يترصّد بها السيد أتباعه، إنما هي التي يتولّون منحه إياها، والأيدي التي تنهال عليهم بالضرب لا يأخذها إلا من بين صفوفه، لا سلطة لسيّدهم عليهم إلا بهم، لذا يغدون بكلّ يسر شركاء اللصّ الّذي يسرقهم والمجرم الَّذي يقتلهم لم تستعبد الشعوب إلا لأنّها استسلمت للفساد وقبلت بالاستغباء".

هذا الواقع الذي عاشه الشعب السوري، من القمع والتفنن في القتل والتدمير، أوصله إلى حالة الكسل الولادي التي تخلق مع البشر، فيصبحون على درجة من الضآلة، والهشاشة، حتى لم يعد يسعهم الصمود أمام أي صدمة، ويغدون لا يستيقظون، بل تبدأ ملامح فقدانهم كيانهم الأول، وحتى الرغبة في استرجاع طبيعتهم البشرية يبدو أن هؤلاء الناس وتحت وطأة الذل والاستعباد لم يعد لديهم رغبة في النور، بعد أن ألفوا الظلام وفقدوا الشجاعة دفعة واحدة، بعد فقدهم للحرية على مدى كل تلك السنوات فأصبحوا راضين عن كل تلك الممارسات بل حتى أصبحوا يتفننون في إثبات الذلة والمهانة مع قاتلهم حتى وصلت معهم العبودية إلى استسهال الأمور فلم يعد بإمكانهم الشعور بالحرية أو الأسف عليها حتى باتت طبائعهم لا تشبه طبائع البشر.

فكيف لهؤلاء الناس أن يتحرروا من تلك العبودية الطوعية؟ لقد وضع إيتيان دو لابويسي علاج العبودية الطوعية، اختصره في تهديم قاعدة هرم التسلط و"هرم التسلط" هو السلسلة التي تجعل الحاكم في قمته معبودا من طرف الرعية، وهو ما يعمل عليه الأسد، وما بينه وبين القاعدة جوقة من المطبلين والشبيحة والمنتفعين ورجال الدين، وهم حلقة الوصل، بينه وبين تلك الجموع التي وصلت إلى العبودية الطوعية، لهذا فالحل يكمن في إعلان العصيان والتمرد والقطيعة، لأنهم هم من أوجد هذه المشكلة وعليهم يقع كفل حلها، وهو ما فعله جزء من الشعب عام ألفين وأحد عشر وأسقطوا سلطة الأسد من نفوسهم، فكلفهم ذلك فاتورة كبيرة من الدماء والأشلاء ثمناً لتلك الشجاعة التي أقدموا عليها، فخرجوا في إدلب وعفرين والباب وأعزاز بدلاً من التسبيح بحمد القائد بمظاهرات تندد بشرعية الانتخابات، ومطالبة المجتمع الدولي بمحاسبته على جرائمه، بدلاً من الاعتراف بانتخاباته.

العصفور لا يبني عشًا في القفص، حتى لا يورث ابنه العبودية!!

إلا أن تلك الحلول لا تبدو ناجعة في منطقة يحكمها الأسد، ولا يمكن التعويل على القابعين تحت حكمه، الذين اعتادوا على الخضوع والرضى بطمأنينة البؤس، وعسل العبودية المرّ، على حنظل الحرية الحلو، لهذا يجب على السوريين غرس الحرية كثقافة في أولادهم ليقوموا بما عجز عنه آباؤها، وهو ما لا يمكن فعله في البقاء تحت رحمة الأسد، يقول جبران خليل جبران إن العصفور لا يبني عشًا في القفص، حتى لا يورث ابنه العبودية!!