امتناع السلام من امتناع الحرب

2018.09.17 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

هناك عدد من الحروب الكبيرة، في منطقتنا، هي في حالة كمون. بمعنى أن كل أسباب اندلاعها، في أي لحظة، قائمة، لكنها مع ذلك لا تندلع. مثلاً حرب بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، أو حرب بين إسرائيل وإيران في سوريا، أو حرب بين دول خليجية وإيران، أو حرب أميركية على إيران، أو حرب بين تركيا والنظام الكيماوي في سوريا.

لا تندلع الحروب المذكورة لأن أي من أطرافها لا يريد أن يخاطر بنتائج غير مضمونة، فضلاً عن تحمل كلفتها البشرية والمادية الباهظة. وعموماً لا تلجأ الدول إلى الانخراط في حروب بينية إلا حين تفشل في تحقيق أهدافها بوسائل أخرى، دبلوماسية أو ضغوط غير حربية أو حروب بالوكالة أو "منخفضة الكثافة". وما دام هناك وسائل من هذا النوع، تفضل الدول استنفادها أولاً قبل المغامرة بشن حرب مكلفة وغير مضمونة النتائج.

بطريقته البهيمية في مواجهة ثورة الشعب السوري السلمية، وفر نظام بشار الكيماوي "ساحة" مناسبة لتصريف فائض العنف الكامن لدى دول ومجموعات، ولشن حروب الوكالة

بطريقته البهيمية في مواجهة ثورة الشعب السوري السلمية، وفر نظام بشار الكيماوي "ساحة" مناسبة لتصريف فائض العنف الكامن لدى دول ومجموعات، ولشن حروب الوكالة بديلاً عن الحروب بين الدول المعنية والمنخرطة في الصراع. وهكذا، بدلاً من أن تشن إسرائيل حرباً على حزب الله في لبنان، راحت تقصف مواقعه ومواقع تابعة مباشرةً لإيران داخل الأراضي السورية، من غير أن تتورط في قتال مباشر معهما. وإلى الآن تبدو إيران موافقة على "قواعد الاشتباك" هذه برغم خسائرها الكبيرة. وذلك لأنها لا تريد لأي صراع جانبي مع إسرائيل أن يشوش على حربها على السوريين، إضافة إلى أنها ربما تحسب أن كلفة الاشتباك مع إسرائيل ربما تكون أكبر من سكوتها على الضربات الإسرائيلية الموضعية من جانب واحد.

وتمتنع إيران عن الانخراط في الحرب، أيضاً، مع المملكة السعودية بصورة مباشرة، مفضلةً تزويد الحوثيين بالصواريخ التي تضرب عمق الأراضي السعودية، بين حين وآخر. وقبل انسحابها من الصراع في سوريا، كانت السعودية تخوض حربها بالوكالة من خلال دعم مجموعات مسلحة أبرزها جيش الإسلام الذي استقر به المقام في الغوطة الشرقية طوال سنوات، من غير أن يقاتل قوات النظام الكيماوي في العاصمة ومحيطها.

وقبل دخول جيشها المباشر إلى الأراضي السورية، في كل من منطقتي "درع الفرات" وعفرين، كانت تركيا تخوض حربها ضد النظام إلى حين، وضد "وحدات حماية الشعب" الكردية غالباً، بواسطة فصائل عسكرية إسلامية وغير إسلامية، مستأنفةً بذلك حربها الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني في تركيا.

وينعم لبنان باستقرار نسبي (اللهم لا حسد!) بفضل انشغال حزب الله بجهاده المقدس في سوريا، كما بسبب عدم رغبة كل من إيران والسعودية في إشعال النار في لبنان، في وقت يخترق فيه الصراع "السني – الشيعي" عموم الإقليم، وتتعرض إيران لضغوط غير مسبوقة من الولايات المتحدة، بعد سنوات من الرحرحة في عهد باراك أوباما.

أما روسيا فهي، على رغم انخراطها المباشر في الصراع السوري، حريصة على عدم الاصطدام المباشر مع الدول الأخرى التي لها قوات عسكرية في سوريا، وأهمها الولايات المتحدة وتركيا. كما أنها امتنعت عن الزج بقوات برية كبيرة في الصراع الداخلي السوري، مفضلةً الاقتصار في مشاركتها على قواتها الجوية.

يبقى هذا النوع من حروب الوكالة، يطول مداها الزمني، وقد لا تنتهي إلى تحقيق الأهداف المرجوة للدول التي تغذيها. ذلك أن نتائج الحروب تظهر على طاولات التفاوض

الخلاصة أن الدول المتصارعة على مصالح متباينة يصعب التوفيق بينها، وجدت في الحروب "ذات الكثافة المنخفضة" في كل من سوريا واليمن، بديلاً معقولاً عن الانخراط في حروب مباشرة كبيرة بين جيوش نظامية. يبقى هذا النوع من حروب الوكالة، يطول مداها الزمني، وقد لا تنتهي إلى تحقيق الأهداف المرجوة للدول التي تغذيها. ذلك أن نتائج الحروب تظهر على طاولات التفاوض، أي في ميدان السياسة. وما دامت الأدوات المحلية لم تنهك، وما زالت قادرة على الاستمرار في الحرب، ولم ترضخ الدول الداعمة بعضها لمطالب بعض، أو تتوافق على حلول وسط، فإن الحرب مرشحة للاستمرار.

هذه هي حال الصراع السوري. ففي لحظة معينة من استقالة الدول الغربية من الهم السوري، دخلت روسيا بكل ثقلها في الحرب السورية. وبنتيجة "انتصاراتها" الميدانية المتلاحقة، أنشأت مسار آستانة – سوتشي السياسي لقطف ثمار إنجازها في سوريا. وسلمت لها واشنطن وحلفاؤها بهذا الاستفراد برسم مصير سوريا. لكنها برغم استثمارها لـ “مناطق خفض التصعيد" في مواصلة الحرب حتى القضاء على كل المعارضة المسلحة وقضم مزيد من الأراضي لمصلحة عميلها في دمشق، فشلت في ترجمة كل ذلك إلى إنجاز سياسي. وها هي تصطدم بجدار إدلب. ففي إدلب برز الخلاف الذي كان مضمراً، إلى حينه، بين موسكو وأنقرة، بما يهدد بتفجير "ثلاثي آستانة" من الداخل. وفجأةً "انتعشت" إدارة دونالد ترامب فوضعت اشتراطات سياسية فيما سمي بـ"ورقة مبادئ" جديدة من شأن وقوف "المجموعة المصغرة" (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية ومصر والأردن) وراءها بقوة أن يضع حداً لكل الأحلام الروسية في سوريا.

لا نعرف بعد مدى جدية واشنطن، بالدرجة الأولى، في تمسكها بمضمون الورقة المذكورة، في ظل إدارة يرأسها شخص لا يمكن توقع ما يمكن أن يفعل بعد 24 ساعة.

لكن ما يمكن تأكيده هو أن الحرب في سوريا لم تنته بعد، ولا يمكنها أن تنتهي ما دامت الحروب المباشرة بين الدول ممتنعة، والتوافق بينها على حلول لتناقضاتها ما زال بعيد المنال.