كثيراً ما نقرأ في الدراسات الأدبية أن الوقوف على الأطلال في الشعر العربي، منذ العصر الجاهلي، تقليدٌ عام لا يمكن الخروج عنه، وهو يشبه إلى حد ما الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية. فالشاعر يقف على الأطلال التزاماً بمجرى العادة لا أكثر.
ظل هذا الحال سائداً في عصر صدر الإسلام مروراً بعصر الخلافة الراشدة ومن ثم الأموية، إلى أن جاء العصر العباسي ففجر أبو نواس ثورة في هيكلية القصيدة العربية، ونقد الوقفة الطللية وطلب من الشعراء المباشرة بالغرض من القصيدة في المديح والهجاء والفخر والغزل والرثاء وما إلى ذلك.
هذه المقدمة صحيحة إلى حدٍ ما، لكن المغالطة فيها تصوير الشاعر الواقف على أطلاله بأنه ملزم بهذا النمط وبإمكانه الخروج عن الوقفة الطللية إذا شاء بمحض إرادته. الحقيقة أن الشاعر العربي لا يمكنه الولوج إلى غرض القصيدة من دون المرور بامتحان نفسي يكون في مستهل النص، والحديث هنا عن ظاهرة الوقوف على الأطلال.
يعرف الطلل بأنه ما بقي من آثار العمران البشري الذي كادت ملامحه أن تختفي بسبب الدمار أو الحروب أو العوامل الطبيعية، فيهجره أهله ويبقى خاوياً على عروشه والحيوانات تلعب في ميادينه، فلماذا يقف الشاعر عليه قبل الشروع في هدفه؟
طقوس القصيدة يمكن تشبيهها بطقوس المطر؛ فالمطر لا يظهر بشكل مفاجئ، وإنما يسبقه هبوب رياح ثم حركة غيوم وتكثفها في الجو، وقد يتخلل ذلك برقٌ ورعد قبل أن يهطل في نهاية المطاف. كذلك الشعر، يحتاج إلى ديناميكية نفسية تستفز قريحة الشاعر وتحرضها على الإفاضة شعرا، وكلما كان الاستفزاز قويا جاءت الأبيات بليغة وقوية، والعرب في الجاهلية وحتى في صدر الإسلام كانوا أهل بداوة باستثناء بعض الحواضر، وهم كثيرو التنقل، ومساكنهم إما خيام أو بيوت بنيت بطرق بسيطة سرعان ما تتهدم على عكس القلاع والحصون، ولذلك عندما يغادر الشاعر موطنه إلى مكان آخر بحثا عن سبل العيش يعود إليها بعد عام أو أكثر يجدها قد اندثرت وتحولت إلى أطلال. ولهذه المنازل ذكريات تتعلق بالمحبوبة والأهل ودواب الركوب كالإبل والخيول. وهذه العوامل هي الحجر الذي يقدح زناد المشاعر، ولا بد للشاعر أن يقف عليها مأسورا للماضي. يقول زهير بن أبي سلمى:
أَمِـــن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّـــــمِ
بِحَومانَــــةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّــمِ
بِها العَينُ وَالأَرآمُ يَمشينَ خِلفَةً
وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ
وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً
فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّـــمِ
والوقوف على الأطلال لا ينفك بتاتًا عن ربطه بالمرأة التي تمثل مفهوم الخصب والنماء، وهو ما تفتقر إليه الصحراء العربية، إلا من مواطن عدة تطاردها القبائل وربما تتقاتل عليها، فهي محور حياتهم. وليس من السهل أدبياً أن تجود قريحة شاعر دون أن يستهل قصيدته بالوقوف على الأطلال التي هي في حقيقتها أطلال نفسية تتعلق ببساطة النفس العربية التي كانت بعيدة حينذاك عن الفلسفة والفنون، ولم تخالط تعقيدات الحياة.
الأطلال في صدر الإسلام
وللدلالة على مدى انتماء الشعر العربي لمفهوم الأطلال، فإن مجيء الإسلام لم يستطع أن يلغي الوقفة الطللية. فبالرغم من أن الأسلوب الأدبي الجديد المستمَدّ من لغة القرآن الكريم استطاع التأثير على بنيوية النص الشعري وهذّب ألفاظه وفتح الباب أمام انزياحات لغوية جديدة، إلا أن هيكل القصيدة لم يتغير، إذ يبدأ الشاعر بوقفة على الأطلال ثم يشرع في غرضه الشعري.
يقول حسان بن ثابت في قصيدته المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
عَفَت ذاتُ الأَصابِعِ فَالجِواءُ
إِلى عَذراءَ مَنزِلُها خَلاءُ
دِيارٌ مِن بَني الحَسحاسِ قَفرٌ
تُعَفّيها الرَوامِسُ وَالسَماءُ
وَقالَ اللَهُ قَد أَرسَلتُ عَبداً
يَقولُ الحَقَّ إِن نَفَعَ البَلاءُ
الأطلال في العصرين الأموي والعباسي
في عصر الخلافة الراشدة وفي العصر الأموي انتشر العرب خارج شبه الجزيرة العربية واستقروا في حواضر الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، حيث ثقافات جديدة ونمط حياة مختلف ومع ذلك بقي الشاعر العربي يقف على الأطلال في مستهل قصائده.
يقول الشاعر جرير في مستهل هجائيته للفرزدق:
أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا
وَقولي إِن أَصَبتُ لَقَد أَصابا
أَجَدِّكَ ما تَذَكَّرُ أَهلَ نَجدٍ
وَحَيّاً طالَ ما اِنتَظَروا الإِيابا
وفي العصر العباسي بقيت القصيدة العربية محافظة على هيكليتها منذ الجاهلية عند أغلب الشعراء، لكن الشاعر أبو نواس قاد ثورة على هذا النمط، فانتقد الوقفة الطللية واستهزأ بالذي يقف عليها رغم إقامته في الحواضر حيث القصور والقلاع والحصون، فيقول:
لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ
واشربْ على الوردِ من حمراءَ كالوردِ
والحقيقة أن ثورة أبي نواس لم تنجح في تغيير شكل القصيدة العربية واستمر الشعراء بعده على المنوال القديم، حتى أبو نواس نفسه لم يقدم لنا نموذجاً لقصيدة طويلة ذات غرض شعري محدد لم يستهلها بوقفة طللية، إذ أن غالب قصائده جاءت قصيرة وهي أشبه بالدفقات الشعورية في حالة انتشاء، ولا يمكن الحكم عليها من الناحية النقدية إن كانت قد جاءت بشكل جديد أم لا.
الأطلال في العصور الأخيرة
في العصر العباسي الثاني، مروراً بالمملوكي فالعثماني، وصولاً إلى زمن الشعر الحر وقصيدة التفعيلة، بقي البناء الشعري في القصيدة العربية مضطرا إلى الوقوف على الأطلال وإن اختلف مفهوم الطلل أساسا، إذ لم يعد يشير إلى بقايا المنازل وإنما أخذ بعد فلسفيا يدور حول البكاء على تجارب الماضي، أو حول المعنى الرمزي للعشق. وكان شعراء التصوف في العصر المملوكي فرسان هذا الميدان مثل البوصيري وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض، حيث يقول الأخير:
ما بَيْنَ مُعْتَركِ الأحداقِ والمُهَجِ
أنا القَتِيلُ بلا إثمٍ ولا حَرَجِ
ودّعتُ قبل الهوى روحي لما نَظَرْتَ
عينايَ مِنْ حُسْنِ ذاك المنظرِ البَهجِ
في العصر الحديث، حيث جاءت القصيدة العربية بأشكال جديدة من حيث البنية الخارجية بفعل تأثير الشعر الأجنبي المترجم؛ صارعت القصيدة العربية النمطية المعروفة بالعمودية الوافد الجديد. ولكي لا تصبح أطلالاً، واكبت الحداثة من حيث البنية الداخلية إلا أنها لم تستطع التخلي عند الاستهلال المؤدي إلى الغرض الأساسي منها، وبقيت فكرة الأطلال بتحولاتها الحداثوية حاضرة. فهذه قصائد نزار قباني العمودية مثل: "ترصيع بالذهب على سيف دمشقي" و"من مفكرة عاشق دمشقي"، استهلّها بالوقوف على المرأة والذات بمفهومها الرمزي لا المباشر. حتى محمود درويش في ملحميته "مديح الظل العالي"، بالرغم من أنها من شعر التفعيلة، إلا أن مقدمتها جمعت مزيجا من الرثاء والبكاء ومناجاة الذات.
الوقوف على الأطلال بمختلف مفاهيمه ودلالاته جزءٌ أصيل في طقوس الشعر العربي في مختلف العصور، وعنده إما يحكم على القصيدة بالنجاح أو بالفشل، ولا يمكن أن يتدفق الغيث الشعوري ليصب في واحة القصيدة من دون هذه الوقفة. وكأن شيئاً ما يشد الشاعر إلى الوراء ويقول له: خّذ قدحاً من الحنين قبل أن تحلق ثملاً في فضاء قصيدتك.