الوقف الحجازي

2020.07.02 | 00:11 دمشق

skt_alhjaz.jpg
+A
حجم الخط
-A

انتشر في مدينة دمشق، وأنا هنا أتكلم عن دمشق لأنها مدينتي وأعرف تفاصيلها وأعتقد بأن معظم المدائن السورية تتشابه معها مع الاختلاف البسيط في التفاصيل المحلية، انتشر في نهايات القرن التاسع عشر مبدأ فعل الخير، واهتمام فاعل الخير من أبناء المدن السورية بضرورة استمرار فعل الخير حتى بعد رحيل فاعل الخير نفسه عن الحياة، وحتى يضمن ذلك الكريم المقتدر من فاعلي الخير أن لا يتصارع ورثته على ما رصده من مبالغ من أجل إعالة الناس والفقراء والغرباء، انتعشت بشدة فكرة الوقف، وهي ببساطة أن يبني فاعل الخير مكاناً ويجعله وقفاً للفقراء والغرباء وعابري السبيل والمحتاجين، أو أن يشتري أرضاً ويمنحها لمكتب الوقف الإسلامي أو المسيحي ويتركها بخيرها أو ثمن استئجارها أو ثمن ما زرع فيها من زراعات موسمية، كي تذهب لمن يحتاج، وذلك بمعرفة الأوقاف أو من عُين على خدمة هذا الوقف، والوقف في العرف العقاري القانوني، لا يباع ولا يشترى، وهو يبقى على حالته القانونية..

والوقف نوعان: وقف ذري ووقف خيري.. فأما الوقف الذري فهو الوقف المخصص لإعانة الأهل أو الأبناء أو الفتيات ممن كان أهلهن يخافون عليهن من ضيم الحياة وفيه يخصص المالك أرباح أرض زراعية مثلاً لصالح عائلة أرملة أو مطلقة أو يتيم، وأما الوقف الخيري وهو المخصص لكل محتاج و عابر سبيل ويتيم في الأرض.

ومن هذه الأوقاف في مدينة دمشق، الوقف الحجازي الذي أُسس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، للإنفاق على الخطوط الحديدية التي ستخدم حجاج بيت الله الحرام من كافة بلاد المشرق والأناضول، وصولاً إلى الحجاز والأراضي المقدسة، ومن أجل ذلك أُسست لجنة تأسيس الخطوط الحجازية التي انتشر رسلها في البلاد الشرقية لجلب التبرعات من المحسنين والمتبرعين من المسلمين والمسيحيين، وبالفعل تهافتت تبرعات المجتمع المدني في الشرق بكثافة منقطعة النظير، فكانت أسماء المتبرعين تظهر في الصحف العربية والتركية والفارسية، مباركة ومعلنة ما فعله هؤلاء من خدمة للناس وللتطور في الشرق، فكانت الخطوط الحجازية من تمويل حقيقي لشعوب المنطقة ولتتخذ من مدينة دمشق منطلقاً للحجاز وللحج الكبير، بديلاً عن محمل الحج الدمشقي الشهير، ونتيجة لنجاح التجربة أصدرت الدولة العثمانية طوابع تذكارية بأسماء كبار المتبرعين تباع في العالم، وأيضاً منحت أوسمة تذكارية خاصة، منها الذهبي ومنها الفضي، سمّوها وقتها (أوسمة إعانة السكة الحجازية).. وقد رأيت هذا الوسام الفضي منه في بيت شقيقة جدتي بمدينة دمشق، حيث كانت تضعه في صدر البيت في إطار خشبي كبير مغطى بزجاج لماع وحوله صور الأجداد، فكان فخراً وعزاً للعائلة، تتفاخر به شقيقة جدتي، لما تبرع به زوجها من ذهب ومصاغ ونقود من أجل إنجاز سكة الحديد التي ستصل الشام بالحجاز، والتي تُمكن أهالي سوريا من الذهاب إلى الحجاز في أيام بدلاً عن أشهر، قد تكون قاتلة، فكان حينها دارجاً أن يموت الحاج على الطريق ذهاباً أو إياباً، وهو يسير تحت الشمس في البوادي والسهوب، فتقتله الأمراض، أو يقتنصه قطاع الطرق، أو يموت من المرض والتعب نتيجة سنه، فمعظم الحجيج كانوا ممن ينتظرون تأمين أولادهم ومن ثم توفير جزء من نقودهم للحج والتقرب من الله قبل أن يتوفاهم، فيكونون في رضا وإيمان بأن مصيرهم الجنة.

ونظراً لنجاح المشروع نتيجة التعاون الكبير من الأهالي والمتبرعين وتدفق التبرعات وفرض الطوابع التي كانت تستعمل في كافة الأراضي العثمانية، فقد شعرت الدولة العثمانية بخطورة المشروع الذي قد بدأ يلفت أنظار القناصلة والمستثمرين الأجانب، فأعلنته وقفاً إسلامياً محمياً بحكم الشرع والقانون لا يباع ولا يشترى.. وكان ذلك في العام 1913..

كانت إيرادات الوقف الحجازي تصرف على صيانة السكة والمحطات المنتشرة من دمشق حتى حوران والأردن ووصولاً إلى المدينة المنورة

فكانت إيرادات الوقف الحجازي تصرف على صيانة السكة والمحطات المنتشرة من دمشق حتى حوران والأردن ووصولاً إلى المدينة المنورة.. وما يزيد من الإيرادات كان يصرف على كل محتاج من الحجيج  الذين ازدادت أعدادهم بشكل استثنائي بسبب الشعور بالأمان والثقة بوسيلة النقل الجديدة التي تحمي أرواح كل الناس وتسهل عملية الانتقال جيئة وذهاباً من دمشق إلى مكة.. فكان الوقف الحجازي أول مشروع إقليمي اقتصادي يضم أكثر من بلد عربي، بتمويل عربي، وخدمة عربية، وبرعاية من الدولة الحاكمة التي كانت هي الإمبراطورية العثمانية متمثلة بالسلطان عبد الحميد الثاني وقتها.. فكان التعاون بين مدن السكة استثنائياً وازدهر الاقتصاد بعد الحج وأصبح التنقل بين البلاد العربية أمراً يسيراً، بينما كان أمراً يحسب له ألف حساب، وكل ذلك كان قبل خطوط النقل وخطوط أنابيب البترول والطيران بين الدول العربية، وكان من المخطط أن يتم وصل السكة بحلب ومنها إلى إسطنبول لتكون أكثر خط حديدي حيوي في الشرق كله، قبل بناء خط بغداد برلين الذي أصبح طريقاً للحرير ضخماً ومفيداً، فكانت أنذاك بغداد عاصمة للاقتصاد في المشرق العربي، ودمشق (شام شريف) نقطة وصل وانطلاق روحية للعاصمة الروحية والدينية للعرب والمسلمين حينها مكة المكرمة، فيما كانت إسطنبول العاصمة السياسية..

بدا الشرق في حالة ازدهار حينها، حتى أتت الحرب الكونية الأولى، فأتى الانتداب الأجنبي، ونسفت الخطوط الحجازية، على يد (لورنس العرب)، وتوقف الشريان الواصل بين مكة ودمشق، والذي كان طريقاً اقتصادياً واستراتيجياً هاماً جداً، ولا يزال متوقفاً حتى اليوم.. حتى بدأت دول الانتداب الفرنسي والبريطاني بخصخصته واقتناصه قطعة قطعة، وتقاسمه واعتباره ملكية لكل دولة يمر بها الخط الحجازي، فباتت الخطوط في الأردن ملكاً للأدرن وتسيّر في الأردن فقط، وكذلك في فلسطين وسوريا والسعودية.. وتوقف خط دمشق بيروت لاحقاً، ومثله خط بغداد حلب الواصل لإسطنبول وبرلين..

وتمر السنين وتتعرض بلاد الشرق لما تعرضت له من انهيار، حتى يخرج علينا بريد دمشق، الآتي من المدينة المتعبة والمرهقة من سنين القهر والحرب، بأن شركة ما -لم تحدد جنسيتها- قد تملكت محطة السكة الحجازية كي تستثمرها في بناء فندق خمس نجوم، الشركة إيرانية أو روسية؟ لم يذكر الخبر أو يحدد المستثمر بدقة، لإحساسهم بالجرم المقترف..

كان الوقف الحجازي في دمشق، مخصصاً لبناء الآبار وكفالة اليتيم وكسوة الفقراء ورعاية المكتبات، كل ذلك يحدث بينما يزداد الفقر والجوع في البلاد السورية، والسبب الجائر لا يزال جاثماً فوق صدور الناس، كل ذلك يحدث والأهالي تفتقد يداً خيرة تمتد إليهم لتنتشلهم من أحزانهم، دون غرابة، فمن يجرد البلاد من أهلها لن يجد غضاضة في تجريدها من وقفها الخيري الإسعافي..

كلمات مفتاحية