الوطن ذلك الضبع المفترس

2021.10.27 | 06:43 دمشق

jwaz-alsfr-alswry-696x435.jpg
+A
حجم الخط
-A

أصبحت سوريا بالنسبة لكثر من السوريين، مجرد خريطة معلقة على حائط ما في مدينة ما في عالم ما، أو ربما مجرد تعليقة في سلسلة ذهبية أو فضية، توضع في عنق سوريّة أو سوري ما كمحاولة لعدم نسيان هذا الانتماء المرهق إلى درجة القهر، في استعادة مشابهة نسبيا لحالة الفلسطينين الذين أخرجوا من بلادهم في النكبة والنكسة، إذ لطالما كانت لخريطة فلسطين في بيوتهم الجديدة وفي أعناقهم، رمزية كبيرة تدل على التمسك بالأرض المفقودة، مثلما تدل مفاتيح البيوت التي حملوها معهم على رمزية العودة ذات يوم، بيد أن الرمزيتين: التمسك والعودة، لا وجود لهما الآن في حالة السوريين، ذلك أن للتاريخ دروسه الكبيرة، التي لم ننتبه لها إلا متأخرين: من يخرج من بلده هاربا ونازحا ولاجئا، لن يعود إليه أبدا، كان هذا دائما في التاريخ البشري.

عاد الفلسطينيون بعد اتفاقية أوسلو  إلى رام الله، إلى قطعة صغيرة من الوطن، إلى دولة لا تشبه الدولة، يخرجون ويعودون منها بموافقة المحتل،  كان هذا أفضل المتاح، حتى العراقيين الذين عادوا بعد سقوط صدام حسين عادوا كسياح أو زائرين، من استقر منهم عدة أعوام لم يستطع احتمال الحياة وغادرها مجددا إلى غير رجعة، لم يعد اللبنانيون الذين غادروا فترة الحرب الأهلية، إلا من لجأ منهم إلى سوريا القريبة، أما من ركب الطائرة أو السفينة فلم يعد سوى للزيارة والسياحة، كل الشعوب التي عانت من الحروب والاحتلالات والمجاعات والقمع الإجرامي وهرب منها من هرب لم يعد إلى بلاده يوما، صار منتميا إلى بلاد جديدة، يحمل جنسيتها وتطبق عليه ما يطبق على المواطنين الأصليين، لماذا سيكون السوري استثناء من هذه القاعدة؟ وهو الذي رأى من الأهوال والخوف والارتباك والتنمر ما رأى في هروبه وتغريبته، حتى استقر في المكان الذي وصل إليه وبدأ حياة جديدة سيقضي سنوات منها في محاولة للاندماج والتأقلم مع العالم الجديد وثقافته وعاداته قبل أن يشعر بالأمان والاستقرار، ولماذا سيكون استثناء أيضا ومن تسبب بتغريبته الطويلة مازال حيث هو، ومازال المجتمع الدولي محتفظا به محاولا تدويره من جديد؟ وربما بعد سنوات سيعيد المجتمع الدولي سردية التوريث نفسها التي حدثت عام 2000، إذ من يدري ما الذي دفعه آل الأسد للمجتمع الدولي مقابل امتلاك سوريا ومصير شعبها هكذا، لا يشبه الأمر كوريا الشمالية، فكوريا مغلقة على ذاتها تماما، ولديها مخزون نووي مخيف، قادرة أن تهدد به لتترك وشأنها، بينما لا يملك النظام السوري ما يهدد به، تركه وشأنه ليفعل ما يفعل في سوريا هو أمر ربما لن تعرف أسبابه في وقتنا الحالي، لكنني أكاد أثق أن ثمة وثائق تشبه (باندورا) أخرى سوف تكشف يوما كيف حدث ما حدث ولماذا!

الوطن يحضن ويضمن مستقبل أطفاله، سوريا تقتل أطفالها وتشردهم في العراء وتسلب منهم طفولتهم وحياتهم ومستقبلهم

ماذا يمكن أن نسمي هذا الخروج السوري الكبير الذي مازال مستمرا حتى اللحظة، وإن اختلفت أسبابه، ما هي التسمية التي يمكن أن تطلق عليه؟ ربما لا تسمية محددة يمكن أن تحيط بكل هذا الخروج متعدد الأسباب، لكن يمكننا أن نسمي سوريا: الوطن الذي لا يمكن أن يسمى وطنا ولا بأي حال من الأحوال، فالوطن ملك أبنائه، وسوريا لم تكن يوما سوى لحكامها وبطانتهم، الوطن يحضن ويضمن مستقبل أطفاله، سوريا تقتل أطفالها وتشردهم في العراء وتسلب منهم طفولتهم وحياتهم ومستقبلهم، الوطن أمان، سوريا قاتلة متسلسلة ومقبرة مفتوحة لأبنائها، الوطن هوية، سوريا بلا هوية سوى النظام، هو هويتها الوحيدة بكل ما يفعله من إجرام، الوطن هو ناسه سوريا تفتك بالناس وتطردهم وتستبدلهم بآخرين، الوطن يتركه أبناؤه ويعودون إليه متى يشاؤون سوريا لا يعود إليها إلا من كان مرضيا عنه، أو يعود لتستقبله أجهزة الأمن وأقبيتها وجلادوها، الوطن يمنحك حقوقاً لمجرد أنك مواطن وتمتلك جنسيته، سوريا يمكنها أن تجردك من جنسيتك لحظة تشاء، ويمكنها أن تجعلك (بدون) حيث لا مفر أمامك سوى الهروب والبحث عن مكان يمنحك (حيثية) تشعرك بقيمتك كإنسان، الوطن حضن ودفء وعائلة، سوريا قصمت ظهر العائلات وفرقتهم، وجعلت البرد ينخر حتى بعظم حجارتها، الوطن تاريخ، سوريا تاريخها مهمل أو مهرب أو مباع، الوطن عقد اجتماعي يربط أبناء المجتمع في خيط واحد، سوريا مجتمع متفكك ومنخور ومخرب ومجرف من داخله، الوطن حماية، سوريا جريمة، الوطن طمأنينة سوريا قهر، الوطن شفاء سوريا ندبة في القلب، الوطن ماض وحاضر ومستقبل، سورية بلا زمن.

أن تبقى سنوات لا ترى أبناءك أو إخوتك أو أسرتك أو أصدقاءك لأن الوثائق التي تحملها لا تسمح لك بالتنقل فأنت منفي

ثم يأتيك من يسخر منك لأنك تقول أنك منفي، ما هو المنفى وماذا يمكن أن نسميه؟ أن تضطر للعيش في مكان ثقافته مختلفة كليا عن ثقافتك ولا تتمكن من الاندماج فأنت منفي، أن تعيش في مجتمع بلغة لن تسمع بها يوما فأنت منفي، أن تبدأ حياتك من الصفر في مكان جديد وأنت أصلا في منتصف عمرك فأنت منفي، أن تبقى سنوات لا ترى أبناءك أو إخوتك أو أسرتك أو أصدقاءك لأن الوثائق التي تحملها لا تسمح لك بالتنقل فأنت منفي، أن تصاب بمرض خطير ولا يتمكن فرد من أفراد أسرتك من القدوم إليك حيث أنت فأنت منفي، أن تخشى كل يوم من سماع خبر سيئ عن أحد أفراد عائلتك في سوريا ولا تتمكن من الذهاب فأنت منفي، أن تقف عاجزا عن مساعدة أحبائك الذين تعرف أنهم يصارعون الحياة في سوريا كما لو أنها ضبع سيصرعهم بعد لحظة فأنت منفي، أنت تفقد أحلامك وتصاب باليأس وتفكر بالانتحار عشرات المرات ويتساوى لديك الموت والحياة فأنت منفي، أن يقلقك موتك وحيدا وأن لا مكان لجثتك لتدفن فيه وأن لا أحد سوف يمشي معك إلى رحلتك الأخيرة فأنت منفي، أن تمنع من العودة إلى مسقط رأسك لتزور أحبابك وقبر أبيك فأنت منفي، هل المنفى غير كل ذلك؟

سأعترف لكم بأنني لم أعد معنية بذلك البلد المسمى سوريا، وأنني لا أملك خريطة لها ولا أحفظ أصلا شكل خريطتها وتضاريسها، ولا أضع شيئا منها حول عنقي، ولا أحملها على ظهري كنتوء، ظهري أملس ومسطح وذاكرتي عنها أصبحت مثله، ذاكرتي الآن مثقلة بتفاصيل المنفى الذي أعيش فيه، المنفى الذي أصارعه كضبع مفترسة ولا أعرف من منا سوف يهزم الآخر ذات يوم.