الوجه المضيء للفوعة 

2018.08.25 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

روح سوريّة عابرة للطوائف، في سبيل الحرية، بجناحين من وعي، بهذه الكلمات نستطيع أن نصف بثقة الراحل النبيل والشجاع، ابن الفوعة، العقيد المهندس جمال حمدون (أبو محمد) الذي توفي منذ أيامٍ قليلة في هولندا بعد معاناة طويلة مع مرض القلب ومع النظام، وكان الراحل مع آخرين من أحرار الفوعة يشكل الوجه المضيء لهذه البلدة التي تم مؤخراً - للأسف - تهجير من تبقى من أهلها، بعد مفاوضات طويلة بين إيران والنظام السوري من جهة، وبين الفصائل الإسلامية من جهة أخرى.

منذ بداية الثورة السورية، حاول النظام بشكلٍ خفي إبراز وجه طائفي للثورة لم يكن متواجداً فيها أصلاً في الأشهر الأولى للحراك المدني السلمي، وساعدته في ذلك الفصائل المتطرفة المسلحة، التي مهد الطريق لقيامها النظام بأجهزته الأمنية، هذه الفصائل المتطرفة حاولت بدورها أن تصدر صورة عن الثورة السورية بأنها من عمل طائفة ضد نظام خاص بطائفة أخرى، ومع مرور السنوات، هذا النظام وتلك الفصائل المتطرفة نجحوا معاً إلى درجة جيدة، في أخذ جزء من الثورة إلى الطائفية، وكانت هذه أم الكوارث بالنسبة للثورة السورية، بينما كانت هدية ثمينة للنظام وللمعارضة المتطرفة. 

العقيد المهندس الراحل (جمال حمدون)

أثبتت الحرب خلال سنواتها المريرة، أن لكل منطقة في سوريا وجهاً مضيئاً ووجهاً معتماً: الوجه المضيء منحاز للحرية والكرامة والتغيير أياً كانت طائفته أو دينه أو قوميته، والمعتم منحاز للاستبداد حفاظاً على مصالحه الشخصية الضيقة أياً كانت طائفته أو دينه أو قوميته.

لا يمكن أن نقول إن منطقة ما في سوريا كلها وجه مضيء، وتلك المنطقة كلها وجهٌ معتم، لأن هذا يتنافى مع أبسط الحقائق الملموسة على الأرض، الحقائق التي حاول وما يزال يحاول النظام والفصائل المتطرفة طمسها، لتقسيم البلد بين مناطق مضيئة وأخرى معتمة تخصهم فقط، مفيدة وغير مفيدة بحسب مصالحهم وانتماءاتهم الضيقة، لا بحسب مصلحة الشعب السوري. 

مدينتا الفوعة الشيعية وبنش السنية عاشتا خلال مئات السنوات علاقات الجيرة والمحبة والتعاون والمصاهرة الزواج والقرابة والعادات المشتركة

مدينتا الفوعة الشيعية وبنش السنية عاشتا خلال مئات السنوات علاقات الجيرة والمحبة والتعاون والمصاهرة الزواج والقرابة والعادات المشتركة، وتجاور الأراضي الزراعية في المدينتين، والمصالح التجارية بينهما في ريف إدلب...إلخ، وخلال هذا التاريخ الطويل من العيش المشترك لم يُسجل لأحد من المدينتين أن اعتدى على جاره، وكلّ مدينة منهما تمارس حريتها الدينية دون تدخل من الآخر، إلى أن بدأ النظام مع قيام الثورة السورية، بدق إسفين بينهما للتفريق بين سكان المنطقة، علّه يلهي الناس بعضهم ببعض عنه، ويحول تنوعهم الطائفي إلى حرب يكون هو فيها صمام الأمان كما يروج لنفسه كذباً و زوراً منذ نصف قرن، ساعده في هذا بعض الشبيحة من الفوعة وبعض المتطرفين من بنش، في الوقت ذاته انتبه باكراً نشطاء ومثقفو المدينتين لهذه المؤامرة المخابراتية للنظام، فوقفوا معاً ضدها بوعيهم الوطني قدر المستطاع، وكان على رأسهم ابن الفوعة وشيخ ثوارها، ووجها المضيء، الراحل جمال حمدون. 

العقيد المهندس جمال حمدون ضابط شيعي من الفوعة، ولد في عائلة مثقفة وفقيرة الحال وكان متفوقاً في الثانوية وناشطاً في الحزب الشيوعي السوري (جناح رياض الترك)، لكن لم تسمح له ظروفه القاسية أن يكمل دراسته الجامعية فانتسب للكلية العسكرية آنذاك، ثم تخرج منها ليخدم في الجيش السوري (إدارة المركبات)، ويكون شاهداً خلال خدمته على عمليات فساد في الجيش لها أول ليس لها آخر، وهذا ما دفعه عدة مرات لتقديم استقالته، وكانت تُرفض في كلّ مرّة، وفي الوقت ذاته كانت تنعم عائلات كبار الضباط من ذات رتبته العسكرية ورتب أدنى بالمكاسب، بقيت عائلته تعيش حياة متواضعة، كما هي عادة الضباط الشرفاء (على قلتهم) من ذوي اليد النظيفة. إلى أن تم تسريحه في عام 2005 ليرجع إلى مسقط رأسه الفوعة، ويعمل في أرضٍ زراعية ورثها عن والده. 

العقيد المهندس الراحل (جمال حمدون)

مع بداية الحراك السلمي كان العقيد المهندس جمال حمدون من أوائل الناشطين في الثورة السورية، وكان يتنقل بين الفوعة وجارتها بنش ومدينة إدلب مع ناشطين آخرين ومثقفين معروفين، وهذا ما حرض بعض أبناء قريته من المؤيدين للنظام عليه ليهددوه عدة مرات. 

دافع الراحل عن المظاهرات السلمية التي شارك فيها في بنش وإدلب، وهاجم النظام بشجاعة منذ الأشهر الأولى للثورة، في نقابة المهندسين والفعاليات الثورية السلمية التي شارك فيها آنذاك، وكان عضواً نشيطاً وفعالاً في تجمع المثقفين الأحرار في إدلب، وعلى تواصل دائم بين المعارضين في الفوعة الشيعية وجارتها بنش السنية ومدينة إدلب. وهذا ما جرّ عليه نقمة النظام، لأن مثل هذا الرجل بهذه الأخلاقيات الوطنية العابرة للطوائف، يشكل خطراً كبيراً (مع آخرين من ثوار الفوعة) أكثر من أي شخص آخر من منطقة أخرى، خطراً يطال الصورة الطائفية التي يحاول إلصاقها بالحراك المدني السلمي آنذاك. 

 وفي الوقت ذاته انشق عن الجيش صهره الشهيد (مازن فواز) ليقاتل مع الثوار ويستشهد في مدينة حارم. 

بعد تضييق الخناق عليه من المؤيدين في قريته، خرج مع عائلته إلى تركيا، بعد أن ساعده ثوار بنش في تهريبه حتى الحدود، وفي تركيا لم تنتهِ معاناته، بعض المنظمات امتنعت عن توظيف أولاده، وأقربائه ومن بينهم زوجة الشهيد (مازن فواز) بحجة أنهم من الطائفة الشيعية، ومن مدينة مؤيدة للنظام (الفوعة) عندئذٍ اضطر العقيد جمال حمدون أن يهاجر مع أسرته من تركيا إلى هولندا، ليقضي فيها سنواته الأخيرة، صامداً على شجاعته التي عُرف بها، وعلى مبادئه ذاتها، التي عاش لأجلها، رغم الظروف الصعبة. 

جاء خبر وفاته في هولندا كصدمة كبيرة لكل من عرفه، حيث نعاه على وسائل التواصل الاجتماعي كلّ من عرفه في حياته وسمع عنه، أو شاهده في الحراك السلمي في مدن إدلب وبنش والفوعة، وبرحيله تخسر هذه المنطقة أحد رجالاتها الذين كافحوا بوعي وإخلاص ضد النظام في سبيل الحرية، كفاحاً إنسانياً عابراً للطوائف، في خدمة الإنسان المضطهد أياً كانت طائفته أو قوميته. 

كتب الراحل على صفحته في الفيس بوك قبل رحيله بفترة قصيرة ما يلي: 

الشعب هو الوطن ولا وطن بدون مواطنين يطالبون بحقوقهم ويرفضون قتل إخوتهم

(كنت أُدركُ تمام الإدراك أن وقوفي في صفوف المنتفضين بالساحات والميادين ضد نظام الحكم الطاغي سيكلفني تشرداً أو اعتقالاً أو موتاً، أنا الذي كان الشق الآخر من أهلي وأصدقائي وأهل قريتي، قد وقفوا إلى جانب القاتل. ووقفت وحيداً في مقدمة الصف، يتبعني زوجتي وأولادي الذين تعلموا أن الشعب هو الوطن، ولا وطن بدون مواطنين يطالبون بحقوقهم ويرفضون قتل إخوتهم تحت أدنى سبب كان، ولأي جهة عادت فائدة ذاك القتل، لكن القرار كان أن الثورة حدثٌ بديهيٌ وحتمي، وأنها لابد تنتصر، وأن العائلة الحقيقية هم أولئك الذين خرجوا بالملايين يطالبون بالحرية). 

رحل ثائر الفوعة (كما يسميه ثوار إدلب وبنش) في الغربة، رحل وهو يحلم برحيل النظام وبرجوعه إلى بيته في الفوعة، رحل.. لكن حلم الحرية لا يرحل.