icon
التغطية الحية

الهوية السورية..أبحثُ عن وجهي مُحدقاً بنحلة وجُمجُمة وكتاب مُصور

2020.11.19 | 05:16 دمشق

assassination_of_kleber11.jpg
باريس - عمّار المأمون
+A
حجم الخط
-A

معضلة صورة نرسيس

صدر للفيلسوف الفرنسيّ لويس لافيل عام 1939، كتاب "معضلة نرسيس"، يخبرنا فيه عبر سرد مُتقن وشعريّ، عن نرسيس، ذاك الذي لا صوت له، ويتأملُ في بُحيرة ذاته التي يُحبّ.

 لا يمس نرسيس البحيرة/ المرآة كي لا تتشوّه صورته، تلك التي لن يستطيع الإمساك بها. المعضلة الأولى، هي أن واحدة من النيمفات تحبه، اسمها "إيكو" أو صدى، لكنها أيضاً بلا صوت، وكلما أطلق نرسيس نداء للبحيرة، ردّتْ عليه بآخر ما قاله، يخاطب صورته " هل أعرف ذاتي ؟" فيأتي الجواب "ذاتيّ"،" "هل سنكون سويةً" ؟، يأتي الرد "سويةً"، والسؤال الأبسط "من أنا ؟" يأتي الصدى على لسان إيكو "أنا".

نرسيس لا يدرك وجود النيمف، هو أسير صوته المتردد وصداه الذي تطلقه صورة تُعيد ما يقول، لكن الإشكاليّة الثانيّة أنه لا يحدق بماء صاف، بل بُحيرةٌ يُغذيها نبع، ما يعني، أن صورته تتغير حسب تدفق المياه، في كل ثانيةٍ يرى صورةً جديدة، والقديمة تُنسى وتتلاشى مع تدفق مياه النبع، وإن ثبتت المياه، وصفا وجه الماء كسطح المرآة، لن يستطيع النظر، كون أنفاسه نفسها ستُحرك الماء، وتشوه الصورة، أو ربما نسيم عليل سيحركها ويشوش ما يراه.

 ليرى نرسيس صورته ثابتة، وتتطابق كليّا معه، عليه أن يكتم نفسه كي لا تهتز صورته، أشبه بجثّة لا أنفاس لها.

هو يشاهد نفسه عوضاً عن أن يحيا، استعراض مؤقت أمام صورة مهتزة وصدى فارغ، وإن تدخل، تلاشت هذه الصورة، و إن صمت، مات مختنقاً، هو مشاهدٌ فضوليّ مُهدد بالموت دائماً إن أراد أن يرى صورة تتطابق معه.

"ثمّة ما يشبه وجهي"

كل سوريّ خصوصاً من المقيمين في الخارج، يبحث عمّا يشبهه، ينبش المرايا ويَتهجّأ كلماتٍ علّها تعرّفه أكثر على ذاته تلك التي فقدها أو يحاول أن يبحث عنها. يحدق بشاشات وكتب وواجهات ومتاحف ومعارض بحثاً عن "صورة".  هو مكتوم الصوت، وإن علا بوجه ما يراه، فلن يسمع سوى صدى مشوَّه لصورة لا تشبهه، بل تحاكيه، تحاول إدراكه وتصنيفه، عله يقتنع بها.

 هذا السؤال عن غياب الهوية وصورتها، نقرؤه  ضمن عبارة شعريّة في ديوان للسوري وائل سعد الدين بعنوان "المخامر الأخير-2010"، هي بصورة أدق،  ليست بسؤال ، ولا إثبات، بل شكّ يستدعي اليقين، إذ نقرأ :" أَذنَ الليلُ وتبادلنا أطراف اللعبة/ ثمّة ما يشبه وجهي".

ما هو الذي يشبه وجه الشاعر، ربما، صورته المهتزة، تلك التي لا دور له فيها، يبحث عنها ويتأملها، بل ويحاول أن يلعب معها، هذه الصورة بعد 2011، أصبحت ملكاً للآخرين أيضاً، لنبع تتدفق فيه صور نبحث فيها عمّا يشبهنا.

هذا الشبه/ الصدى و"الآخرون" المنتجون له، يتركنا في كثير من الأحيان متأملين، في صور لا تتطابق معنا، نفند فيها ونحاول أن نوسّع حدودها أو نقلصها، نصوص وصور وتحاليل واكتشافات، كلها تتحدث عن "السوري"، بصورة أدق، وجهه في المرآة، هي صورٌ مهتزة مع صدى يختزل الكلام الأصلي دون إكماله، والأهم دون امتلاك القدرة على الحوار معه.

الأمر أشبه ببحث في المرايا عن انعكاس ثابت ولو للحظة، بحث عن وجه ما يملك صفة "سوري"، تلك التي صودرت من قبل الكثيرين وتحولت إلى محط جدل والأهم، باب للبحث عن هويّة مغايرة، أنتجها "الآخرون"، عوضاً عن تلك الخالية من الأنفاس، التي نراها لدى الجثث.

نحلةٌ لافتة للانتباه

صدر هذا العام في مجلة " العلوم الحيوانية في الشرق الأوسط" ورقة بحثية بعنوان "وصف لافت للنظر لفصيل جديد من الأندرينا في سوريا"، أندرينا هو نوع من النحل، ويشير الباحث توماس جايمس وود من المختبر الطبيعي في جامعة مونز في بلجيكا، أن هذا النوع اكتشف في سلسلة جبال لبنان الشرقيّة في سوريا.

يقول إن هذا الفصيل رصد ضمن "مواد متحفيّة لا يمكن تحديدها"، ويشير إلى نقص المعلومات عن هذه الأنواع الفرعية في سوريا، ويستطرد كأي باحث واصفاً الخصائص الجسديّة للذكور والإناث من هذا النحل ومحدداً ما هو  "لافت للنظر" في هذه العينات التي جُمعت بين رنكوس ومعلولا.

نتأمل صور النحلات في البحث، صور طبيّة لدراسة خصائصها بدقّة، طولها وعرضها وامتداد أطرافها، قراءة مجهرية لمكوناتها الجسديّة، لكن ما يثير الاهتمام هو، كلمة "لافت للنظر " الموجودة في العنوان، والتي تحيل إلى ندرة الدراسات عن النحل في تلك المنطقة.

نحن أمام قراءة جدّية لما هو سوريّ، أدهشت العالم في مختبره، هي ذات خصائص غير معروفة مسبقاً، كأي سوري، عنصر فريد في المساحات الأكاديميّة والجدّية، سرّ لابد من كشفه، ورسم حدوده، وجه يمكن لمن يبحث أنّ يحدّق به ضمن الحدود العلميّة، ومقارنته مع أوجه أخرى، أيضاً نادرة، ما يجعل منه "لافتاً للنظر"، لكنه بالنسبة لمن يحدق لمن يدّعي أنه "سوري"، انعكاس مشوّه، لا يستطيع أن يصرخ في وجهه أو يحدثه.

لا نعلم قصة النحلة، ولا كيف اكتشفت، بل فقط نعلم أنها سوريّة.

جمجمة في المتحف

نقرأ في نص محاكمة سليمان الحلبي، الذي اغتال الجنرال الفرنسي كليبر الفتوى والحكم الذي صدر كعقوبة بلغة شبه عاميّة وركيكة، فهو كـ" المذنبين (ينالون) العذابات المعتادة بالبلد لأعظم المذنبين، ويكون لايق للذنب الذي صدر ، وأفتوا أن سليمان  الحلبي تُحرق يده اليمين، وبعده يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور، وهذا يكون فوق التل الذي برا قاسم بيك، ويسمّى تل العقارب،...وقدام كل العسكر وأهل البلد الموجودين في المشهد....هذه الفتوى تكتب وتوضع فوق النبّوت الذي خُصص لوضع رأسه.."

جمجمة سليمان الحلبي الآن في فرنسا، في متحف الإنسان في ساحة تروكاديرو المطلة على برج إيفيل، الساحة المشهورة بأنها المكان الأفضل لالتقاط الصور أمام البرج، وحيث يتظاهر السوريون في فرنسا ضد نظام الأسد في كل مناسبة.

داخل المتحف، وأمام الواجهة الزجاجية نشاهد جمجمة الحلبي، وتحتها كلمة "مجرم"، و في الواجهة المقابلة نشاهد جمجمة "رينيه ديكارت" الفيلسوف، لن ندخل في مقارنة بين مكان الجمجمتين ودلالات ذلك، لكن المثير للاهتمام أن جمجمة الحلبيّ، جزء من "التراث الفرنسي"، استُملكت ولا يمكن استعادتها بسهولة.

صورة الجمجمة وراء الواجهة، صدى لصورة وحكاية نعرفها بأسلوب مختلف، الحلبي بطل قومي، اغتال واحداً من قادة الاحتلال الفرنسي، علناً، وحوكم علنا، لكن المشكلة، أن الصوت الأصلي للحكاية، يختلف كلياً عن صداها، ويبقى السؤال، هل وجه سليمان الحلبي يشبه وجهـ(نا)ـي؟ أليس سورياً أيضاً ؟

بعكس حكاية نرسيس، الصوت مهما تغيّر أمام صورة سليمان، الصدى ثابت، يكرر ذات الكلمة "مجرم".

كتاب مصوّر عن ضيعة منسيّة

صدر هذا العام الجزء الخامس من سلسلة "عربي المستقبل" للفرنسي السوريّ رياض سطوف، يحكي فيها طفولته في سوريا الأسد، وانتقاله إلى فرنسا، والمشكلات الأسرية التي شهدها بسبب تعصب والده لوطنه، لدرجة أنه اختطف أخاه الصغير ، وعاد به إلى تير معلة في ريف حمص.

لم يُترجم عربي المستقبل إلى العربيّة؛ لأن سطوف لا يثق بدور النشر العربيّة التي لم تضمن له نشر الأجزاء الخمسة والسادس القادم في المستقبل، لن نشكك بموقفه هذا ، لكن الإشكاليّة، هي أن سطوف، كما في الكتاب، لم يكن سورياً في سوريا، إذ كان مكروهاً من أقرانه، وفي فرنسا لم يكن سورياً لأن أحداً لم يصدقه بسبب وجهه الأشقر ذي العيون الزرق، فـ "العرب" كانوا يتنمّرون عليه، ويرفضون تصديق عربيته.

ضاع وجه سطوف في الكتاب المصوّر، لم يكون سورياً في فرنسا ولا في سوريا، وهذا ما نلاحظه في بداية الأجزاء الأربعة، هناك صورة للطفل سطوف أشبه بالصور الطبيّة، كل واحدة من ملامحه لها وصف،  يشير إلى كيف نما وكبر، وفي الوقت ذاته كيف يرى نفسه بالمقارنة مع الآخرين.

نبحث عن تير معلة في كتاب مصوّر صادر بالفرنسيّة؛ لأن الصور الأخرى هي من القصف الروسيّ على القريبة المنسيّة، في كلا الحالتين، الصدى ملك لـ"آخر" يردده إما دماراً أو ذاكرةً، لا وجه لسوريّ في هذا الصدى، بل مجرد وسم غير متفق عليه.