تمكنت صحيفة نيويورك تايمز، خلال عشرة أشهر، من تتبع مصير بعض كبار المسؤولين في النظام المخلوع ممن ساعدوا، لسنوات، بشار الأسد على تنفيذ الانتهاكات والجرائم بحق السوريين.
وبعد سقوط النظام في كانون الأول، واختفاء الأسد عن المشهد، اختفى أغلب رجاله معه، هاربين من الملاحقة أو متوارين عن الأنظار. انتشرت شائعات كثيرة، وقادت في معظمها إلى طرق مسدودة. لكن بعض الخيوط أوصلت الصحفيين مباشرة إلى أماكن سكن هؤلاء المسؤولين.
دمجت الصحيفة هذه الإشارات المتفرقة مع عمل صحفي موسع شمل فحص الوثائق، وملاحقة الأدلة، واللقاء مع العشرات من المصادر، بينهم أفراد من عائلات المسؤولين وموظفون سابقون ومسؤولون غربيون وخبراء قانونيون. وبينما توصلت إلى معلومات مفصلة عن بعضهم، لا يزال آخرون مختفين.
من قائمة العقوبات إلى الميدان
واجه فريق التحقيق أول تحدٍّ له عند البدء: من يتم التركيز عليه في ظل وجود المئات ممن ارتبطوا بشكل مباشر بانتهاكات النظام خلال سنوات الثورة السورية؟
بدأ الفريق بقائمة طويلة من الشخصيات التي فرضت عليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات بسبب ارتباطها بجرائم ارتكبها النظام.
ومن خلال مراجعة التقارير الإعلامية، ومصادر من منظمات سورية غير حكومية مثل "سوريا فري برس"، و"زمان الوصل"، ورابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، ومنصة "برو جاستس"، اختصر الفريق قائمته إلى 55 شخصية رفيعة.
كما ساعدت قاعدة بيانات من "مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية"، و"أرشيف سوريا"، و"مركز العدالة والمساءلة السوري" على تتبع من شغل مناصب تنفيذية خلال سنوات القمع، واستخدمت لتضييق نطاق التحقيق ليشمل من يتحملون أعلى درجات المسؤولية.
وركزت التحقيقات على الأسماء المرتبطة بالجيش والأجهزة الأمنية وبرنامج الأسلحة الكيميائية. واستبعدت شخصيات اقتصرت عقوباتها على قضايا مالية أو إدارية، رغم بقائها ضمن قوائم العقوبات.
ولتحديد الأكثر مسؤولية، ركز الفريق على تسع محطات مفصلية مثل قتل المتظاهرين السلميين والهجمات الكيميائية، وصولاً إلى قرارات إعدام المعتقلين. وساعد ذلك في تقليص العدد إلى 55 اسماً رئيسياً.
دعم محلي وتوثيق قضائي
استفاد فريق التحقيق من جهود منظمات سورية مدنية كانت تعمل منذ سنوات على توثيق الانتهاكات وبناء ملفات للمساءلة. كما استعان بخبرات مركز الإعلام وحرية التعبير، والمحامي السوري أنور البني، المعروف بدوره في ملاحقة مجرمي الحرب السوريين أمام المحاكم الأوروبية.
وقدم نضال شيخاني، مدير مركز "نَفَس للعدالة"، ومركز توثيق الانتهاكات الكيميائية، معلومات حول ضباط في أعلى الهرم الأمني والكيميائي، كما ساعد في ربط الصحيفة بمصادر على اطلاع بعمل مركز الدراسات والبحوث العلمية، الجهة المسؤولة عن تطوير السلاح الكيميائي لدى النظام.
وجوه في الظل.. التحقيق عبر المصادر المفتوحة
اعتمد فريق التحقيق على أدوات المصادر المفتوحة لتحليل صور وحسابات ومعلومات منشورة على الإنترنت، لكنها غير مرئية بوضوح. ورغم أن كثيراً من المسؤولين نادراً ما ظهروا علنًا، فإن الفريق تمكن من تتبع صورهم، من خلال الإعلام الرسمي، وصفحات التواصل الاجتماعي، ومصادر أكاديمية ومدنية.
استخدم الصحفيون بطاقات هوية، توقيعات، ووثائق رسمية لمطابقة الأسماء، وصححوا أخطاء في التهجئة والترجمة ظهرت حتى في قوائم العقوبات الغربية.
-
تم التعرف على جودت مواس، وهو ضابط بارز في برنامج الأسلحة الكيميائية، من خلال مقارنة صوره مع شقيقه التوأم المنشورة على الإنترنت.
-
أما بسام حسن، أحد كبار أركان النظام المخلوع، فلطالما أسيء التعرف عليه في الإعلام. ولكن تم العثور على صور قديمة له عبر حساب ابنته "بشرى" على فيس بوك، ما ساعد في تحديد هويته.
-
في حالة سهيل الحسن، وهو قائد عسكري بارز، تغير شكله أثار تكهنات عن خضوعه لجراحات تجميل. استعان الفريق بخبير التعرف على الوجوه البريطاني الدكتور حسن أوغيل، الذي رجح أن الصور تعود للشخص نفسه.
رصد الهروب بعد السقوط
بحث الصحفيون في إعلانات الوفيات لاستخراج أسماء أقارب، وجمعوا أرقام هواتف وبريد إلكتروني. اتصلوا ببعض الأرقام التي وصلت إليهم من مصادر، وتمكنوا من التواصل مع عدد من المسؤولين السابقين.
استخدم الفريق صوراً فضائية وبيانات تتبع لحركة الطائرات والسفن لرصد مسارات الهروب التي استخدمها بعض المسؤولين بعد سيطرة المعارضة، وقارنوا تلك المعلومات بشهادات شهود شاركوا في عمليات التهريب.
كما استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل أكثر من 13 ألف وثيقة التقطت داخل سوريا بواسطة صحفيين محليين وصحفية مستقلة تدعى لينزي بيلنغ. احتوت بعض الوثائق على أوامر صريحة تربط بعض الشخصيات بالانتهاكات.
من بينها وثيقة صدرت عام 2020، موقعة من محمد كنجو الحسن، رئيس المحكمة العسكرية، يطلب فيها من رئيس فرع المخابرات الجوية عدم إبلاغ عائلات المعتقلين المتوفين بوفاتهم.
المنازل التي بقيت.. والشهود الذين غابوا
سافر الفريق إلى لبنان وفرنسا وبلجيكا، وإلى مدن سورية، لزيارة منازل المسؤولين السابقين، وطرق أبوابها. اختفى معظمهم، لكن منازلهم بقيت، شاهدة على السقوط.
دخل الفريق العشرات من الفلل بموافقة مسؤولين حاليين أو أفراد عائلات. بعضها نُهب، وبعضها سُكن من قبل عائلات نازحة أو مسؤولين جدد، وبعضها بقي فارغاً ينتظر عودة لن تحدث. بعضها تحول إلى مواقع عسكرية.
في تلك المنازل المهجورة، عُثر على أدلة: بطاقة مصرفية منتهية، فاتورة باسمٍ واضح، صور عائلية، وكلها قدّمت خيوطاً صغيرة ساعدت في رسم صورة أوضح عن من كانوا هؤلاء الأشخاص، وإلى أين ربما ذهبوا.
أين هم اليوم؟
تمكنت الصحيفة من تحديد مواقع أكثر من 12 مسؤولاً من أصل 55 شخصية موضع اهتمام. لم يُعتقل أيّ منهم حتى الآن. بعضهم يعيش علناً، وآخرون اختفوا ضمن شبكات حماية في روسيا والإمارات. التحقيق مستمر لتتبع أنشطتهم داخل سوريا وبعد سقوط النظام.
من هم الركاب؟
من بين الركاب كان قحطان خليل، مدير استخبارات القوات الجوية السورية، المتهم بتحمل المسؤولية المباشرة عن إحدى أكثر المجازر دموية خلال الحرب التي استمرت 13 عاماً.
كما رافقه علي عباس وعلي أيوب، وزيرا الدفاع السابقان اللذان يواجهان عقوبات دولية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وعبد الكريم إبراهيم، رئيس الأركان المتهم بتسهيل التعذيب والعنف الجنسي ضد المدنيين.
طرق الفرار
وذكرت مصادر مطلعة على الرحلة لـنيويورك تايمز أن هؤلاء وغيرهم من كبار المسؤولين غادروا العاصمة بطريقة مفاجئة، بعد تقدم قوات المعارضة نحو دمشق، لتصبح هروبهم رمزاً لسقوط النظام.
لم يقتصر الهروب على الطائرات؛ فبعض المسؤولين أسرع إلى فيلاتهم الساحلية، وانطلقوا بزوارق فاخرة، بينما مرّ آخرون في قوافل سيارات فارهة عند نقاط تفتيش جديدة دون أن يدرك مقاتلو المعارضة هويتهم. بعضهم وجد ملاذاً مؤقتاً في السفارة الروسية التي ساعدتهم على الوصول إلى موسكو، أبرز حلفاء الأسد.
وجوب العدالة والملاحقة
وبعد عشرة أشهر على انهيار النظام، تواجه سوريا تحديات إعادة البناء وملاحقة المسؤولين عن الجرائم. ويحاول مقاتلو المعارضة السابقة والحكومة السورية الناشئة تحديد مواقع هؤلاء المسؤولين عبر المخبرين، اختراق الهواتف والحواسيب، أو جمع الأدلة من مقرات النظام المهجورة.
كما يعمل المدعون في أوروبا والولايات المتحدة على إعداد أو إعادة فتح قضايا بحقهم، بينما تجمع المجتمع المدني السوري والأمم المتحدة الأدلة والشهود استعدادًا لتحقيق العدالة في المستقبل.