icon
التغطية الحية

النقد الفني- السياسي في مسرح أنظمة الرقابة والمخابرات

2022.01.03 | 15:54 دمشق

1959.jpg
من مسرحية (فساد أكاديمي) لـ همام حوت
+A
حجم الخط
-A

تتسم الإنتاجات الفنية المنجَزة ضمن شروط ومعايير الأنظمة الرقابية بغياب النقدية، وهي سمة واضحة في مجال المسرح المقيد بفكر السلطة الحاكمة أو الأنظمة السياسية. لكن هذه السمة لا تلغي حضور إطار أو هامش محدد من المعايير النقدية المسموح بها، بما لا يمس بالركائز الأساسية للنظام القائم. فيؤكد الباحثون في مجال العلاقة بين السلطة والفن، أن النقدية لا تغيب تماماً بل تحضر ضمن شروط وأطر معقدة تتطلب البحث وتحديد الكيفيات التي تعمل بها، وهو ما تطلق عليه الباحثة (مريام كوك) الانتقاد المكلف في العمل الفني، أو الانتقاد المرخص من قبل سلطة الرقيب.

وهذا ما يطلعنا عليه بدقة الباحث (حمدان العلكة) في بحثه (صورة السلطة في مسرحيات حمعية المهندسين المتحدين، مجلة قلمون العدد السابع عشر، أكتوبر 2021)، حيث يحلل الأبعاد النقدية والمضامين السياسية لتجربة فرقة المهندسين المتحدين التي حملت خطاباً نقدياً للمسرح الجماهيري في سوريا، لا يخرجها الباحث عن إطار الفن الانتقاد الخاضع لمعايير الرقابة السلطوية.

يتناول البحث نماذج مختارة من أعمال فرقة المهندسين المتحدين المسرحية بين  عامي 2000-2011، ويركز على ثلاثة أعمال مسرحية: (ضد الحكومة، 2002)، (عفواً أميركا، 2005)، (فساد أكاديمي، 2009). وإن تحليل الخطاب النقدي في أعمال هذه الفرقة المسرحية الذي يقدمه الباحث يسمح لنا بتحديد قواعد ملموسة تتعلق بحدود ومساحات المسرح النقدي في ظل النظام الرقابي المسرحي السوري في تلك الفترة.

 

 

في مقابلة خاصة أجراها الباحث مع المؤسس والمدير والممثل الأول في الفرقة (همام حوت)، يوضح الأخير كيفية التحضير للنص والعروض: "وبعد أن تُكتب المسرحية يقوم فريق الإعداد المؤلَّف من أربعة أو خمسة من أعضاء الفرقة نفسها لتجهيزها للعرض، ثمَّ تقدَّم النصوص لعرضها على لجنة الرَّقابة في وزارة الثَّقافة، فتقرُّ النصَّ أو لا تقرّه، أو يُطلب تعديله، فيتمُّ التعديل وفقًا لتعليمات الرَّقابة، وكان بشار الأسد يتدخَّل شخصيًّا ليطرح توجيهاته في لقاءات مباشرةً، إذ التقيت به حوالي ست مرَّات في مناسباتٍ مختلفةٍ، أو عن طريق وسائط من قبله". هذا التقارب بين الطبقة الحاكمة وبين المجموعة الفنية أي الفنانين يذكر بكتاب الباحثة (مريم كوك) بعنوان (سورية الأخرى: صناعة الفن المعارض) الذي يهتم بالعلاقة بين السلطة والثقافة والفن في سوريا، منذ الاستقلال وحتى أعوام التسعينيات في الفترة التي زارتها المؤلفة بين عامي 1995 – 1996. وهي تدرس حدود العلاقة بين المعلن والواقعي في السياسيات الثقافية للحزب الحاكم، وهي تحاول رسم الحدود بدقة بين النقد المسموح في حدود قواعد ورقابة السلطة، وبين النقد الذي لمساءلة هذه الحدود. وتهتم الباحثة بدور المثقفين أولئك الذين ينتجون فنوناً في إطار الخطاب الفكري والإيديولوجي للسلطة، وبين المثقفين والفنانين الساعين إلى ابتكار الفنون والمواضيع النقدية الأساسية. فكما تتوقف الباحثة عند الكتاب والأدباء الذين يعملون في نطاق المفاهيم الرسمية السائدة وضدها في الوقت ذاته، مثل "المواطن الصالح وسقف الوطن".

التظاهر والتواصل المخادع بين السلطة والفرد

يبين الباحث (حمدان العلكة) أن السلطة لا تظهر في مسرحيات المهندسين المتحدين في صورة شخصيّية فاعلة ومتحرِكة على خشبة المسرح، إنما كان يشار إليها بالضمير الغائب الذي يحيل على المسكوت عنه والخارج عن إطار النقد المباشر: ففي مسرحية (ضد الحكومة[1]) أشير إليها بالضمير هو، فيقول الفقير: "هو فوق وأنا تحت، هو بيأمر وأنا بنفذ.. هو بينرفع عالراس وأنا تحت كندرته بنداس"، ليرسم حدود شخصية غائبة وحاضرة في الآن ذاته، إذ إن استخدام الضمير الغائب يبينِ مدى الخوف الذي يبعثه هذا البطل في نفوس من حوله. فثمَّة جماعة من الناس تتكرر الإشارة إليها بـ "هم"، تبدو هذه الجماعة منفصلة من الناحية الأخلاقية عن الكاتب، ولا يمكن التنبُّؤ الكامل بسلوكها.

وقد يتساءل القارئ غير العارف بخفايا الدكتاتورية من هم المقصودون، فإذا كانت الكاتبة تحيل الضمائر إلى شخصية السجان غير المعروفة بالنسبة إلى الآخر، فإن الكاتب هنا يستخدم الضمير الغائب للإشارة إلى المسكوت عنه، ولكنه في الحقيقة معروفٌ بالنسبة إلى المشاهد كونه بطل واضح الحدود والسمات، فهناك تواطؤ بين الجمهور والفنان على خشبة المسرح، على ثيمة معينة تحيل على ذلك المسكوت عنه.

درس الكاتب التشيكي "فاتسلاف هافيل"[2]، النظام الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا، وأصدر عدة كتب في مجال الآليات بين الأنظمة الاشتراكية والجماهير. منها (عيش الحقيقة، 1987)، ودراسته (سلطة فاقدي السلطة[3]) وهو يبين الآليات المتقاربة التي تعاملت فيها الأنظمة الإشتراكية مع الثقافة: "تتلاعب الدولة ذات النظام الديكتاتوري بالشعارات والرموز، وتعتمد خطابًا تتفشى فيه الأكاذيب، ويغمره النفاق. يكون الفرد فيه في أسمى درجات التحرر عندما يكون قابعًا في أدنى درجات الانحطاط، ويعني توفير المعلومات للناس فيه حرمانهم منها، ويكمن تطوير الثقافة في قمعها، ويصبح الجدب في حرية التعبير هو أسمى صور الحرية، ولأن النظام أسير أكاذيبه، فإن عليه أن يزور كل شيء، إنه يتظاهر بعدم التظاهر. تتلاعب الأنظمة بالمعاني والرموز لتكريس ظاهرة عبادة الرئيس في المجتمع، وتحدد السلطة القواعد الرئيسة للسلوك، في ظل ثقافة سياسية ينعدم فيها تصديق الخطاب بشكل سافر".

ويرى هيفل أن السلطة لا تتوقع أن يؤمن المواطن بحقيقة هذه الشعارات الخادعة، لكن المهم أن يتصرفوا كما لو أنهم يؤمنون بها، أو في الأقل أن يتقبلوها بصمت، أو أن يتعايشوا مع أولئك الذين يعملون معهم؛ لذلك كان عليهم أن يعيشوا الأكذوبة، ومن خلال هذه الحقيقة الواقعية، كان الأفراد يعززون النظام وينفّذونه ويصنعونه. ويصبحون هم النظام[4].

وتصر (ليزا ودين) في تحليلها المناخ السياسي في سوريا في الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي على أن السوريين يدركون على الأرجح الفجوة بين ما يعيشونه والادعاءات والوعود الفارغة في بوتقة العبادة هذه، ومع ذلك يعيشون كأنهم يصدقون ما يقوله النظام، وهم بفعلهم هذا يرسخون وجود هذا النظام، ولا تعتمد السلطة على تصديق الناس هذه الأقاويل، بل تعتمد فحسب على تمثيلهم التصديق وما ينتج عنه من تورطهم في علاقات الهيمنة التي تفرض نفسها بنفسها[5].

بطولية السلطة، ومحدودية المحكوم

في مسرحية (ضد الحكومة) يستخدم الكاتب تقنية النمذجة الفنية من خلال استدعاء شخصية تاريخية إلى الحاضر، وهي شخصية عبد الرحمن الداخل، ويقوم الكاتب بإقحام هذه الشخصية في الواقع ليرصد المفارقة بين عصرين مختلفين للحضارة العربية. فالسلطة بهذا الخطاب توهم الشعب بأنها تدافع عنهم وعن حقوقهم، يقول (أبو المنامات): "تلت أرباع زعماء الأمة العربية بدن ياكن كلياتكن تعلكو بالعلكة، منشان ما تفتحو تمكن، وتسبحو بالمسبحة أو تدبكو فيها منشان ما تحركو أيديكن هيك، بس فشروا غصبن عن راس كل الخونة من زعماء الأمة العربية، وطالما عنا بهالبلد أسد ابن أسد".

 

 

ويكتب الباحث: "تلجأ السلطة إلى تبرير استمرارها وضرورته في الحكم إلى محدودية العقل العربي، وهذا ما نشاهده في مسرحية (عفوًا أميركا) إذ تناقش ثنائية المحدود واللامحدود، لتنطبق صفات المحدود على العقل العربي، أما اللامحدود فهي صفات العقل الغربي وصفات سياسته في المنطقة العربية، ففي مناقشةٍ تدور بينِ الشَّخصيات أنَّ مصالح أميركا في العالم ليس لها حدود، وبأنَّ العرب بين شخصيتين في المسرحيَّة تبيّ يعانون قُصرًا في التَّفكير والقدرة عليه، فتقول إحدى الشَّخصيتين: "الأطماع الأميركيَّة بهالعالم ما هي محدودة، بينما العقلية العربية كتير كتير محدودة، الأحلام الصهيونية التوسعية بالوطن العربي ماهي محدودة، بينما الأحلام العربية كتير كتير محدودة". وتركز الانتقادات على السياسيات الغربية وعلى الدول الأخرى بأكثر مما تنظر في السياسيات الداخلية.

حدود الانتقاد المرخص

بحسب تيري إيغلتون فإن السلطات تحتاج إلى القدرة التعبيرية في الفنون لاستكشاف بواطن المحكومين: "لا يمكن لأي سلطة سياسية أن تكون مرتاحة البال من خلال الحكم القهري وحده، ولكن على الدولة أن تعرف محكوميها بصورة أوثق من مجرد رؤيتهم رسومًا وجداول إحصائية حتى تتمكن من ضمان صمتهم، فإذا أرادت السلطة أن تنظم مجتمعاتها من الداخل فعليها أن تمتلك تصوراً عنهم من الداخل، ولا توجد صيغة معرفية أكثر إتقاناً في رسم خرائط تعقيدات الصورة الداخلية من الثقافة الفنية".

هذا الانتقاد الفني المطلوب من السلطة، تطلق عليه (مريام كوك) الانتقاد المٌكلف: "إن الانتقاد المكلف، هو: آلية ضبطية تتحكم الدولة من خلالها في الساحات من خلال الحفاظ على شروط الإنتاج الثقافي في حالة من الشك وعدم التناسق، وإبقائه دائمًا مرتبط بالحكومة. كما أنه يتيح كما يرى ميشيل فوكو إنتاج الأجساد المطوَّعة بوسائل أقرب إلى سياسة الإكراه؛ فالأوامر المتناقضة والجوائز الاعتباطية تضمن الطاعة التي تصل إلى حد العبودية. ويعد الانتقاد المكلف مشروعًا رسميًا متناقضًا لرسم واجهة ديمقراطية. وكما الانتقاد المرخص، يتم تشجيع الانتقاد المكلف في أوقات الأزمات والاختناقات السياسية والاقتصادية. هنا، تحدد السلطة مقدار الانتقاد المسموح به وحدوده من أجل المحافظة على حالة التشرذم أو الخضوع واللامبالاة عند الشعب. كذلك، فإن الانتقادات التي تطاول النظام دون الرئيس، صنفت ضمن الانتقاد المرخص أو المأذون به، وهو ما يضمن تحرير قليلا من الضغط وتخفيف حدته".

وتؤكد ذلك دراسة الباحث (العلكة) ففي مسرحية (فساد أكاديمي[6]) توجه تهمة الفساد إلى صغار الموظفين والعاملين في الدولة وحدهم، فيحمل أبو جمال في خطاب لزوجته الموظفين والشعب ذنب الفساد ليصبح الفساد طبيعة من طبائع الشعب. وبالمقابل، تطرح المسرحية ذاتها صورةً لمعاناة الرئيس وكفاحه ضد الفساد، ويضخم بصورة مبالغٍ فيها المسؤولية الملقاة على عاتقه. وفي مسرحية (عفوا أميركا[7]) يرفض (ديبو) أن يكون عضواً في مجلس الشعب، يؤيده والده في قراره بأن عضو مجلس الشعب لا يعمل سوى أن يجلس ويوافق على كل ما يطلب منه، فيطال الانتقاد أعضاء مجلس الشعب والمحافظ ورئيس البلدية والموظفين وبعض مسؤولي الحكومة من دون أن يتجاوز حدوده المسموحة لتصل إلى المناصب الحساسة في السلطة. وفي مسرحية (ضد الحكومة) يرفض (أبو المنامات) نصيحة الشخصية التاريخية (عبد الرحمن الداخل) بتغيير الحكام: " لأن ذلك لن يغير شيئاً من الحال، وأن سوف من يأتي لن يكون أفضل من الحاكم الحالي،  وهنا تبرز إشارةٌ واضحةٌ إلى عدم جدوى التغيير والثورة على الحكام، بمعنى ترسيخ فكرة استحالة التغيير، وبأن ما يحدث ما هو إلا سلسلة مترابطة من الانحدار التاريخي، عندها تكون السلطة القائمة سلسلةً من هذا التاريخ بما فيه من سلبيات مع عدم إمكانية تغييرها".


[1]  يمكن مشاهدة العرض على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=r0Ln-_Vnjsk
[2] -  Vaclav Havel: Or Living in Truth, Faber & Faber (first published January 1st 1986), London, 1987, P104-105.
[3] - Vaclav Havel, The Power of the Powerless: Citizens Against the State in Central-Eastern Europe, M.E.Sharp, 1985.
[4] - IBID P.45
[5] - Lisa Wedeen, Ambiguities of domination: Politics, Rhetoric, and ymbols In Contemporary Syria. Chicago, Il University Of Chicago Press, 1999, P.84.الانتقا
[6]  - يمكن مشاهدة العرض على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=_1PnkHfDQOM
[7]  - يمكن مشاهدة العرض على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=dHSBDAEJGSc&t=1s