النظام العالمي الجديد في سوريا

2018.07.23 | 01:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن الأسد يرتكب المجازر والقتل بشكل عشوائي، ولم تحول دبابات الجيش الباسل ومدافعه مع طائراته مدننا وأزقتنا إلى خراب، بدافع الانتقام من الثورة السورية فحسب، ولم نُضرب بالكيماوي ولم تتحول أجساد معتقلينا إلى رماد، ولم يخلقوا لنا جنيف ويرغمونا على سوتشي وأستانا، دون تخطيط، ولم يجبرونا على التهجير بالمجان، ولم يكن تحويل ثورة شعب إلى حرب مهلكة مفنية لأصحابها دون دوافع، جميعها كانت تطورات ومراحل متسلسلة تُرسم لحاضرنا ومستقبل وطننا من قبل صناع القرار العالمي بدقة لا نسبة خطأ تذكر فيها، تمهيداً لنظام عالمي جديد في سوريا، لن يقل مرارة عن حقبتي الأسدين- الأب والابن.

كانت وظيفة النظام السوري منذ تنصيبه على سدة الحكم في سوريا، ضبط السوريين على إيقاع الخوف والجدران المجندة لأفرعه الأمنية

كانت وظيفة النظام السوري منذ تنصيبه على سدة الحكم في سوريا، ضبط السوريين على إيقاع الخوف والجدران المجندة لأفرعه الأمنية، وإلهائم بين الهرولة وراء رغيف الخبز، والهرولة بعيداً عن الحياة السياسية، فيما جنّد حافظ الأسد من استطاع من رؤوس المال والتجارة لصالحه، حتى باتوا يسبحون بحمده ويتقاسمون الغنائم السورية كل حسب عائلته وسطوته الأمنية، وكذلك كان عهد وريث سلطته بشار.

اندلاع الثورة في سوريا، أوقع المحضور، وكادت الانتفاضة الشعبية ضد الأسد أن تودي به إلى التهلكة، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، بزعامة إسرائيلية، واجهوا على ما يبدو صعوبة في إيقاف النظام السوري على قدميه، فالمظاهرات عمت البلاد، والحناجر باتت قيوداً تطارده، فكان لا بد من خطة أخرى لتفادي سقوطه، وهي السماح للأسد بضرب السوريين بيد من حديد، وتعطيل أي قرار دولي يطيح به أو ينهي مسيرته المليئة بالدماء والإرهاب.

إسرائيل، على وجه التحديد، وتحت ظلها العشرات من الدول، كانت ترى على ما أعتقد أن كل الاحتمالات أفضل بكثير من التفكير بالإطاحة بربيبها الأسد، فأي نظام سيخلف آل الأسد، لو كان وطنياً بنسبة 10% لن يناسب تل أبيب، فهي لا ترغب بعودة سوريا السياسية الوطنية إلى الواجهة، فإن ولادة سوريا حرة يعني خسرانها-أي "تل أبيب" لعشرات الأنظمة العربية المشابهة للنظام السوري، الوفي لها والعدو على شعبه.

روسيا، كإيران وكحزب الله، وعشرات الميليشيات الشيعية، لم يدخلوا الحرب ضد السوريين تحت أجنحة الظلام، وفي الخفاء، بل دخلوا سوريا من أوسع أبوابها

ضرب الجانبين الشعب السوري والنظام ببعضهما ريثما يتم التوافق على نظام جديد لسوريا بديلاً عن الأسد، وعوضاً عن الثورة السورية، كان أفضل الطرق، لإنهاء الثورة مع الوطن معاً، وهنا يزول الخطر مؤقتاً، لتتسيد روسيا بإجماع دولي سدة الحكم في سوريا، أو على أقل التقديرات ضمن الجغرافية التي احتلها من السكان الأصليين على امتداد عرض وطول البلاد.

روسيا، كإيران وكحزب الله، وعشرات الميليشيات الشيعية، لم يدخلوا الحرب ضد السوريين تحت أجنحة الظلام، وفي الخفاء، بل دخلوا سوريا من أوسع أبوابها، ولكن الفرق بين روسيا وبقية المنتخبات القاتلة، أن روسيا هي الجهة المسموح والمتوافق عليها دولياً بإدارة سوريا، وهذه ما تعكسه المعاملات الدولية الخاصة بالشأن السوري.

المجتمع الدولي استهلك الإيرانيين وحزب الله ومعهم عشرات الميليشيات في قتل السوريين، كالمرتزقة المأجورين، دون أن يسمح لهم بمناصب سيادية على جرائمهم، كما فعل مع روسيا، التي باتت هي النظام العالمي الجديد الذي يحكم سوريا بالحديد والنار باسم القوى الكبرى، وبواجهة مهترئة اسمها حكومة دمشق.

وضع روسيا على سدة الحكم في سوريا، وتوافق موسكو مع تل أبيب وواشنطن وأوروبا، ومع العرب، ليس عشوائياً، وهذا ما أكدته قمة "هلسنكي" بين ترامب- وبوتين، وخلصت أبرز مخرجات اللقاء بـ"حماية إسرائيل"، وهنا ليس المقصود، حماية حدودها عبر النظام السوري، بل عبر النظام الجديد-روسيا، الذي بدأت ملامحه تظهر جلياً في إدارة حاضر سوريا ومستقبلها القريب.

فروسيا اليوم، تنسق مع واشنطن لإعادة اللاجئين السوريين إلى كنف الاستبداد من لبنان والأردن، وجزء من تركيا، وجيش بوتين بات مسيطراً بشكل تام وكامل على الخط الساحلي السوري، وعلى المعابر الحدودية مع الأردن، وموسكو تتشارك مع فرنسا في حادثة هي الأولى لتقديم مساعدات إنسانية إلى الغوطة الشرقية، وهما تطوران كبيران سياسياً ودولياً على صعيد المستقبل السوري.

التشاور مع روسيا لإعادة السوريين قسرياً تحت عنجهية النظام الجديد في سوريا، مؤشر خطير بأن الولايات المتحدة وإسرائيل أوكلتا ضبط المنطقة للقوات الروسية

التشاور مع روسيا لإعادة السوريين قسرياً تحت عنجهية النظام الجديد في سوريا، مؤشر خطير بأن الولايات المتحدة وإسرائيل أوكلتا ضبط المنطقة للقوات الروسية، وفق الإيقاع المراد له دولياً، وهذه الخطوة تؤكدها المساعدات الفرنسية للغوطة الشرقية، فقد كان بإمكان باريس إرسال المساعدات للغوطة عبر الأمم المتحدة مباشرة دون الحاجة للتحالف الجزئي مع الروس، ولكن على ما يبدو بأن باريس شقت طريقاً جديداً في السياسة الواقعية في سوريا، وهي التعامل مع موسكو على أنها الحاكم الفعلي، وتجاهلها للنظام السوري عمداً قد يدور في ذات الفلك.

حتى الأردن أعلن عبر مسؤوليه بأن معبر نصيب سيشهد حركة تجارية خلال أسبوعين، ونشطت لبنان في ذات الإطار، جلها دلائل بأن سوريا الأسد باتت اليوم سوريا بوتين، وأن وجود نظام دمشق، مجرد أداة لشرعنة ما يتم تطبيقه، على أنه الحاكم الشرعي ومالك الدولة.

وهنا لا بد أن نستشعر بأن كافة الأطراف الدولية، تتجاهل عن عمد أي حراك فعلي مع المعارضة السورية، وهو المطلوب دولياً، تحييدها عن القرار، بعد لي الذراع العسكري للثورة السورية، وانتزاع حاضنتها الشعبية بالقوة والترهيب، وإجبار الهاربين بأحلام الحرية خارج الحدود بالعودة القسرية إلى داخل البلاد، ولكن بلا بعد التخلي عن أحلامهم...

هذه التطورات، جميع مخرجاتها تطبق في مناطق الانتشار الروسي في سوريا، وهنا جوهر الحديث، فهل سيمتد النظام العالمي الجديد إلى كافة الجغرافية السورية؟ أم إننا سنكون أمام نظامين أو ثلاثة؟ وهذه تساؤلات ستكون أجوبتها واضحة حتى نهاية العام الحالي.

رغم ذلك، فالتحليلات تشير إلى أن خيار الفيدراليات، ربما سيكون عنوان المرحلة المقبلة، ما ستؤول إليه تطورات شمال وشرق سوريا، ما لم تحدث توافقات وصفقات جديدة، تعيد السوريين من مظلة الاحتلال المحلي عبر الأسد، إلى الاحتلال الخارجي بقيادة روسيا