النخب وفيالق الحمقى ووسائل التواصل

2022.03.16 | 05:52 دمشق

facebook-marketing.jpg
+A
حجم الخط
-A

كل مدة يظهر هنا أو هناك من يستنكر ويتذمر من تزايد وكثرة الكتابات الأدبية وغيرها على وسائل التواصل الاجتماعي لا سيما فيس بوك، بين العرب عموما والسوريين خصوصا، حيث يعتبر المتذمرون أن الكتابة مع وسائل التواصل باتت مهنة من لا مهنة له: الكل يريد أن يصبح شاعرا أو أن يتحول إلى أديب مشهور، وللجميع أيضا آراؤهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، والتي يريدون أن يُدلوا بدلوهم بها مع كل حدث جديد سوري أو عربي أو دولي، وما أكثر الأحداث الحاصلة في حاضرنا! الحاضر الذي تحول فيه العالم كله لأول مرة إلى قرية صغيرة فعلا، ولم يعد ذلك مجرد جملة مجازية كناية عما فعله تطور وسائل الاتصالات الحديثة، إذ منذ عام 2011 بات واضحا أن ما يحدث في مكان ما في العالم لا يمكن أن يبقى محدودا ومحصورا في رقعة حدوثه، ما ينتج عنه من نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية سوف يضع أثره على مجمل دول العالم، وتبقى سوريا ومأساتها دوما مثالا حيا وحاضرا على هذا التأثير، من حيث هجرة ولجوء السوريين إلى كل دول العالم، حرفيا، ومن حيث التحالفات والتجاذبات السياسية والاقتصادية التي ما زالت حتى اللحظة تحدث فوق الأرض السورية. كما شكل كوفيد 19 حدثا بارزا وحّد البشرية وأخضعها للشروط ذاتها والقيود والاحتمالات، لم يختلف بذلك العالَم الغني عن الآخر الفقير، كله وقع تحت رحمة الفيروس، مثلما يخضع العالم حابسا أنفاسه هذه الأيام لصوت الغزو الروسي لأوكرانيا وما سينجم عنه من كوارث بشرية واقتصادية وإنسانية مهولة، بدأت بوادرها تظهر مع الارتفاع الهائل في أسعار كثير من المواد الأولية في كل العالم.

هذا النوع الساذج والرديء من الكتابات خلق نوعا مشابها له من القراء، وخلط معايير الكتابة الرصينة بالركيكة مثلما خلط بين القراء النوعيين وقراء الوجبة السريعة

كل ما حدث ويحدث في عالمنا الحالي يغري بتسجيل رأيٍ ما حوله، خصوصا مع سهولة التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، وكل ما يحدث أيضا سوف ينعكس بطريقة ما على وعي البشر وتفاعلهم معه، وقد تكون الكتابة (الأدبية) إحدى أيسر الطرق للتعبير عن الأثر العميق لهذه المتغيرات التي تصيب حياتنا، خصوصا لمن يمتلك أدواتها الأولية: اللغة وقليل من الموهبة والجرأة لاقتحام هذا العالم، ومنبر يمكن من خلاله نشر ما يكتب، وتفاعل وتواصل بعض القراء مع المادة المكتوبة، وهو ما وفرته بكثرة وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أيضا المثلب الذي يقدّمه المتذمرون من كثرة الكتّاب كبيّنة بين أيديهم، إذ يقولون إن هذا النوع الساذج والرديء من الكتابات خلق نوعا مشابها له من القراء، وخلط معايير الكتابة الرصينة بالركيكة مثلما خلط بين القراء النوعيين وقراء الوجبة السريعة، إن صحّت التسمية، هؤلاء الذين يمنحون كل من يخطر له الكتابة على فيسبوك مشروعية الاعتداد بما يكتبه ومشروعية تعامله مع نفسه كاتبا محترفا من خلال ما يتلقاه من عدد الإعجابات أو التعليقات التي يتركها قراء عابرون وسريعون ومجهولون لكن يمكنها أن تعزز لدى الكاتب حضور (أنا) مختفية، وتجعله يقتنع أنه من نوابغ الكتابة.

والحال، أن ما يقوله المتذمرون يحدث فعلا منذ أن أصبحت وسائل التواصل وسيلةَ نشرٍ ومنبرا يمكن لأيّ منا استخدامه لنشر ما يخطر له من كتابات أو آراء، أو حتى إنتاج أدبي ما، شعري أو قصصي أو يوميات أو غيره، كما أنه فعلا غيّر من عملية القراءة وساهم في إنتاج قراء عابرين وسريعين يشتكون من الكتب الضخمة أو من المقالات الصحفية الطويلة، أو حتى من المنشورات الطويلة على وسائل التواصل، معتبرين أن الزمن الحالي بالغ السرعة في تطوره التقني ويلزمه سرعة موازية في تلقّيه، ما يُقصي المزاج البشري القديم والبطء الهادئ في عملية قراءة الكتاب المطبوع أو المقالات التحليلية العميقة التي تحتاج إلى تركيز مكثف لصالح الاختزال واللقطة والتغريدة التويترية، لصالح السرعة والعبور والبحث عن الجديد.

لسنا هنا في وارد  المفاضلة بين الحالتين، فلكل حالة منهما شرطها الزمني والموضوعي والظرفي، ولكل منهما أيضا متعته الخاصة، ولا أظن أن إحداهما سوف تقصي الأخرى، على الأقل حتى الآن، حيث لا يزال الكتاب الورقي رائجا، ولا تزال دور النشر تنشر وتعرض وتشارك في معارض الكتب المتنوعة، من دون أن يلغي ذلك تأثير ما ينشر على وسائل التواصل ودوره في زمننا الحالي وتأثيره على شريحة كبيرة من البشر لا سيما الجيل الشاب الذي يمتلك قدرة لم تمتلكها أجيال سابقة في التعامل مع التكنولوجيا الحديثة والاستفادة منها إلى أقصى حد واستغلالها حتى في البناء المعرفي الشخصي والجمعي.

وهنا، وبالعودة إلى مقدمة المقال، يخطر سؤال في البال عما يزعج المعترضين من كثرة الكتابات والكتاب على وسائل التواصل، وعن سبب الاستعلاء الذي يمارسه بعضهم ضد كل من ينشر رأيا أو نصا أو خاطرة على صفحته الشخصية؟ وهل يُخشى على الكتابة الرصينة مما يُكتب على وسائل التواصل؟ شخصيا، وأنا من الذين يستخدمون وسائل التواصل لنشر الكتابة الإبداعية، لا أظن أنها (وسائل التواصل) تشكل خطرا على الإبداع الحقيقي، ذلك أن لكل نوع من الكتابة جمهورَه وقراءَه، مهما كانت سويّة ما يُكتب، أكان ركيكا أم رصينا، هناك دائما من يمكنه التمييز بين الاثنين، وهناك دائما عينٌ نقدية قارئة وقادرة على إفراز الغث عن السمين، كما أن الزمن يصفي الإنتاج كله لصالح الجودة غالبا، أو لنقل لصالح الأجدر بالبقاء، ولصالح ما يلامس المشكلات الطارئة على حيَوات البشر ومكابداتهم الجمعية والفردية.

أهم ما يميز وسائل التواصل هو كسر الجدار الفاصل بين النخبة والعامة لصالح فئة جديدة سوف تكون هي الأكثر اتساعا يوما ما

ثمة مقولة تنسب للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو يقول فيها: "إن أدوات مثل تويتر وفيس بوك تمنح حق الكلام لفيالق الحمقى ممن يتكلمون في البارات فقط بعد كأس من النبيذ دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يمكن إسكاتهم فورا، أمّا الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء". وفي الحقيقة لا أحد يعرف إن كان قد قال هذا الكلام أم لا، ولكن جملة كهذه فيها كمية معتبرة من الاستعلاء النخبوي، كما أنها إحدى الجمل الأكثر تدميرا لمفهوم حرية الرأي، والغريب أنها جملة متداولة بكثرة على مواقع التواصل، وبطبيعة الحال فإن كل من يتبناها يفترض في الآخرين الحمق والبله ويعزل نفسه عنهم، وبالتالي يفترض في نفسه امتلاكه لأحقية إبداء الرأي في كتابات الآخرين وآرائهم. وبطبيعة الحال فإن أهم ما يميز وسائل التواصل هو كسر الجدار الفاصل بين النخبة والعامة لصالح فئة جديدة سوف تكون هي الأكثر اتساعا يوما ما، ذلك أن الزمن دائما في صالح السائد، حتى لو كان السائد ركيكا الآن لكنه سوف يمرّ بفلاتر الزمن والنقد والتاريخ والتراكم والانزياح والسياقات الفارقة، وسوف يصبح نخبويا في المستقبل وقد يعترض على ما يظهر على جوانبه.