المُضحك المُبكي

2021.06.02 | 06:41 دمشق

thumbnail_adigabze6.jpg
+A
حجم الخط
-A

أسوأ ما يمكن أن يفكر المرء في الكتابة عنه في اللحظة الراهنة هو موضوع الانتخابات في سوريا، جملة مكونة من ثلاث كلمات صالحة لأن تكون عملاً مسرحياً كوميدياً قد يستمر عرضه عقوداً، وقد يسبب الملل في نهاية الأمر لكنه ما قد يسببه أكثر هو مشاعر مختلطة من اليأس والخذلان.

بات الحديث عن الموضوع مكرراً ولا يقدم جديداً، فما زالت الأعراس الديمقراطية المفترضة تدور على أرض الوطن المزعوم من أجل اختيار الحاكم الأفضل من بين مرشحين آخرين يقومون بدور ممثلين ثانويين.

تعرف الانتخابات لغوياً بأنها انتقاء النخبة، والنخبة هي الشريحة الأفضل والأقدر في مجال معين، وهذا بحد ذاته يبدو أمراً مضحكاً لمن كان على اطلاع على الوضع السوري المستمر منذ سبعينيات القرن الماضي.

عرفت سوريا في تاريخها ما كان يسمى اصطلاحاً البيعة للرئيس "الاستفتاء في اللغة القانونية"، لأن مصطلح الانتخابات لم يكن وارداً في شكل الحياة السياسية السورية آنذاك، وعلى الرغم من وجود الانتخابات في سوريا الحالية فإنها لا تختلف عن المبايعة المعروفة سوى بالمظهر العام وشفافية فرز الأصوات المفترضة بما فيها من النكات المتداولة المثيرة للضحك والأسى في آن واحد.

منذ قديم الزمان والشعب السوري لم يعد يعوّل على برلمان أو غيره من أجل تغيير أحوال البلاد

أما فيما يخص الانتخابات البرلمانية والانتخابات على صعيد البلديات، فقد كان الأمر قد يوحي للناظر من بعيد بأن البلاد تحيا ضمن مناخ ديمقراطي قديم العهد، فيما لم تكن على اختلافها سوى محاكاة لمسرحية البيعة الرئاسية، إضافة إلى أنها كانت تعتمد على ولاءات طائفية وقبلية ومناطقية وإقليمية وفق ما تقتضي المصالح الشخصية.

منذ قديم الزمان والشعب السوري لم يعد يعوّل على برلمان أو غيره من أجل تغيير أحوال البلاد، لكننا جميعاً كنا جزءاً من هذه اللعبة، وإذا لم نكن فلم يكن أحد منا يكلف نفسه للعمل من أجل إيقاف تلك العجلة السياسية التي أطاحت بنا جميعاً في النهاية.

لم يكن الوضع السياسي يسوء الشعب السوري بعمومه ـ مع بعض الاستثناءات ـ في شيء، بل كان يبتدع حيلاً يستطيع من خلالها التعايش مع الأوضاع السياسية والأمنية كي يضمن سلامة حياته واستمرار عجلته الخاصة، وكان يستمر في معايشة تفاصيل يومه العادية وكأنه استسلم لقدره بتسليم السفينة للربان الأحمق، ولم يعد باستطاعته الاعتراض لأنه في وسط بحر هائج ويخشى على حياته.

ما يحصل الآن في سوريا ليس جديداً غير أننا نعيش حالة إنكار تامة ترافقها دهشة واستنكار كبيرين بسبب إقبال الناس على الانتخاب تارة، إضافة إلى حالة احتقار وتخوين تجاه من قام بهذا "الفعل الشائن" مرات أكثر.

لقد مرت العقود التي حكم فيها الأسد الأب والابن البلادَ في خوف ورعب شديدين وكان الجميع ممن ينتقدون حالة الانصياع الحالية، منصاعون في أزمنة مضت على الرغم من أن الأب مثل الابن لم تكن لتخفى وحشيته على أحد أيضاً.

لقد حصل ذلك على مرأى من العالم أجمع مراراً وتكراراً غير أن ذلك لم يكن مدعاة للانزعاج، بل كان كل منا منشغلاً بتجميع المكتسبات الفردية البسيطة والصغيرة لمساعدته على الخلاص الفردي، فمنا من كان يحلم بالهجرة، ومنا من ساير الطرف القوي كي ينقذ نفسه ويؤمن نجاته من القبضة الحديدية التي تحكم البلاد، ومنا من نأى بنفسه عن كل ذلك واختار أن يخرج من المسار ليصبح كائناً هلامياً لا لون لوجوده ولا رائحة ولا تأثير.

علينا أن نعترف في لحظة شجاعة أن ما حصل لم يكن ليحصل إلا بسبب خنوعنا وتغاضينا عن حقوقنا عبر عقود، وأننا حين نفكر في لوم المجرم علينا أن نلوم أنفسنا من باب أولى لأننا جميعاً كنا شركاء في الجريمة الشنيعة التي ترتكب بحق سوريا والسوريين.

على أنه يجب الإشارة إلى أن التماس الأعذار للآخرين ومحاولة فهمهم لا يعني على الإطلاق جعلهم محقين في موقفهم، فعلى الرغم من أن الصمت حق لكثير من الناس في المرحلة الوحشية التي تعيشها البلاد، غير أنه كلما طال زمن ذلك الصمت فإنه لا يدل إلا على سلبية واضحة وانعدام الموقف لدى فئة الصامتين.

لا أعني في ذلك من يعيشون في الداخل السوري فحسب مع العلم أن لهم الحق في الصمت أكثر من غيرهم بسبب هول ما يعايشونه من أوضاع مختلفة الآن، وإنما حتى السوريين الذين استطاعوا النجاة والهروب إلى خارج البلاد ممن نجد أنهم أصبحوا غارقين في تفاصيل حياتهم تاركين الأزمة التي تسببت بتهجيرهم لتحلّها أياد أخرى.

ما زلنا نعاني من أزمة البحث عن الخلاص الفردي، وعدم مدّ اليد إلى الآخر لانتشاله ولو معنوياً وهو أضعف الإيمان.

الأزمة الحقيقية التي نعاني منها على الأغلب تتلخص بأننا نحيا في حالة إنكار عامة ونتجاهل عللنا ومشكلاتنا السياسية والاجتماعية

إن المكاشفة ووضع اليد على المشكلة الحقيقية لا تبيح لنا أن نضيء على أخطاء بعضنا بعضا مثلما يحدث في كثير من الأحيان، وإنما تعني أن نتحمل الجزء الخاص بمسؤوليتنا وألا نكتفي بتحميل الظرف العام تلك المسؤولية أو ألا نضع أخطاءنا على شماعة الآخرين.

الأزمة الحقيقية التي نعاني منها على الأغلب تتلخص بأننا نحيا في حالة إنكار عامة ونتجاهل عللنا ومشكلاتنا السياسية والاجتماعية، وندعي أننا قادرون على سدّ الفجوات السياسية وأننا بلغنا التعافي المناسب كي نستطيع تصميد جراح بعضنا بعضا.

لا يبدو ذلك الطرح دقيقاً بقدر ما يبدو خيالياً، ذلك أننا أو الجيل الذي سبقنا لم نصل إلى مرحلة المواجهة الحقيقية، فنحن ما زلنا عاجزين تماماً عن إلغاء حالة العبودية لأننا في مؤسساتنا الديمقراطية الهزيلة التي عرفناها لم نتمكن من إحراز تقدم ولو بسيطاً على صعيد الديمقراطية.

من الواقعية إذن أن نعترف أننا ما زلنا حديثي عهد في الممارسات الديمقراطية وما زلنا بحاجة إلى كثير من الجهد والوقت لتعلّم أساسياتها، وأن هذا العرس الديمقراطي سيليه كثير من الأعراس الوطنية الديمقراطية إذا بقي الحال على ما هو عليه.