المَثَل الأعلى... غيابٌ أم تغييبٌ؟

2022.05.14 | 06:56 دمشق

1440x810_382794.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما وضع أفلاطون أسس جمهوريته جعل الفلاسفة حكَّام هذه الجمهورية؛ لأنَّه وجد فيهم الحكماء الذين يمتلكون الفضيلة، فيستطيعون من خلال هذه الفضيلة قيادة جمهوريتهم لتحقيق السعادة للبشر، سكَّان هذه الجمهورية، فالفيلسوف في ذلك العصر كان المَثَل الأعلى الذي رأى فيه الناس العقل الفاعل والمدبِّر بوصفه أداةً يستنير بها أبناء البشر، وعلى غرار أفلاطون سار الفارابي على النهج نفسه في تأسيسه لمدينته الفاضلة من منظور متأثِّر بالفلسفة اليونانية من جهةٍ، وبالثقافة الإسلامية من جهةٍ أخرى، فقد وجد الأخير أنَّ الحكماء والفلاسفة هم أفضل من يمكنهم أن يقودوا تلك المدينة نحو درب الخلاص الذي فيه خيرهم، نقول هذا من دون التعرُّض لما في هذه المدن المتصوَّرة من طوباوية لم ولن تتحقَّق على أرض الواقع، فهذه قضية أخرى مكانها ليس هنا.

ولو ذهبنا للحديث عن العصر الجاهلي لوجدنا أنَّ الشعراء هم من قادوا دفَّة المُثُل في ذلك الوقت، حتى قيل إنَّهم كانوا يباركون لمن يبزغ بين ظهرانيهم شاعرٌ، فيحتفون به احتفاءً كبيراً؛ لأنَّ الشاعر منهم قادرٌ على تخليد ذكراهم وأمجادهم، وهو من يذود عن قومه مدافعاً عنهم بلسانه وبلاغته، بمعنى آخر، إنَّ العرب في الجاهلية كانوا يجدون في فصاحة اللسان وبلاغة القول مثلاً أعلى يُحتذى به.

الفنانون أيُّها السادة يسيطرون على شاشات التلفزة في القنوات الأرضية والفضائية، وهم موجَّهون إلى الشرائح والأعمار كافَّةً

وليس هناك حاجة إلى أن أطرح تساؤلات على أبناء هذا الجيل، كمثل؛ من هو مَثَلك الأعلى؟ وما هي مقوِّمات المَثَل الأعلى في عصرنا الحالي؟! لأنَّ الإجابة عن هذه التساؤلات يمكن استشفافها ممَّا نراه ونسمعه ونعايشه في كلِّ يوم، إذ لم أجد عناءً كبيراً في معرفة من يسيطر على ذهنية شباب المجتمعات العربية، بشكل عامٍّ، فيؤثِّر في أذواقهم وتوجُّهاتهم، فيكفي أن تتصفَّح موقعاً اجتماعياً، مثل التيكتوك، لتجد أنَّ الفنانين هم من أصبحوا في عصرنا قدوةً ومُثُلاً عليا، الفنانون أيُّها السادة يسيطرون على شاشات التلفزة في القنوات الأرضية والفضائية، وهم موجَّهون إلى الشرائح والأعمار كافَّةً، نراهم في المقابلات وفي برامج المسابقات وفي برامج الأطفال.. يتحدَّثون عن كلِّ المواضيع، ويدلون بدلوهم في كلِّ القضايا... إلى درجةٍ زادت على الحدِّ المعقول، حيث أصبحت حياة الفنان ويومياته هي شغلهم الشاغل على مواقع التواصل الاجتماعي، والأصعب تقبُّلاً أنَّها ذات تفاعلات عالية تفوق التَّصور.

وهنا يمكن أن نتحدَّث عن نسقين من هذا الانسياق الأعمى غير المُعَقْلَن، الأوَّل يمسُّ الشَّكل، والثاني يتناول المضمون، وبين هذين النسقين يضيع الأجيال في سباق محموم، يؤكِّد تزعزع القيم الإنسانية، وهبوط الذوق العام عند فئة كبيرة من الشباب العربيِّ، ولا ريب أنَّ التقليد في الشَّكل سينسحب على المضمون بطريقة غير واعيةٍ أو غير مدرَكةٍ، فبدلاً من الاهتمام بالفنِّ الذي يصقل الوعي الجماليَّ عند الإنسان أصبح الاهتمام منصبَّاً على صاحب الفنِّ فقط، بغضِّ النظر عن المحتوى الذي يقدِّمه هذا الفنان، لقد أصبح الشكل في الهيئة الخارجية جزءاً لا يتجزَّأ من عملية الاستنساخ التي يجريها أطباء التجميل على الفنانين بشكلٍ عامٍ، والفنانات بشكلٍ خاصٍّ، حتى غدونا لا نعرف واحدةً من الأخرى، وينتقل عدوى التغيير في الشكل، ولا أقول تجميلاً، إلى الجمهور من (الفانز) الذين يروِّجون لهذا الفنان أو ذاك من خلال التشبُّه المبالغ فيه دون النظر إن كان ذلك الشكل الجديد يناسبهم أم لا، فبتنا نرى أشكالاً ممسوخة ومشوَّهة، لم تستطع أن تحافظ على شكلها القديم، ولم تبلغ مَثَلها الأعلى في شكلها الجديد، ناهيك عن التشبُّه بكيفية اللباس أو طريقة الكلام.

ثمَّ كان الانتقال إلى ما هو أخطر من الاستنساخ الشكليِّ، حين بدأ الفنانون يشكِّلون مُثُلاً عليا في المضمون، ولا أقصد هنا ما يقدِّمونه من محتوى فنيٍّ، وقد رأينا مؤخَّراً ما تعرضه شاشات التلفزة في برنامج (شو القصة) الذي تقدِّمه الإعلامية رابعة الزيَّات حين تطرح على ضيوفها الفنانين أسئلةً وجوديةً بحتةً لا علاقة لها لا بالفنِّ ولا هم يحزنون، مثلاً تسأل (بالنسبة لك من هو الله؟، هل تؤمن بالجنة والنار؟ هل تخاف من الموت؟ هل هناك حياة بعد الموت؟) في الحقيقة هذه الأسئلة الاستفزازية مصمَّمة خصِّيصاً لتكون إجاباتها مثيرةً للضجَّة الإعلامية، وجاذبةً لاهتمام الجماهير، وهذا هدفها الوحيد؛ الانتشار بين أكبر شريحة من المجتمع.

ما يقلق حقَّاً هو تأثير هذه الإجابات في الجماهير، خاصة وأنَّ هؤلاء الفنانين هم في نظر المتلقِّين مُثُلٌ عليا، سلَّمنا بهذه الحقيقة أم لم نسلِّم بها

ونتساءل ما هي علاقة هذه المواضيع الوجودية بالضيوف الفنانين الذين يعملون بالفنِّ، أي المحتوى الذي يقدِّمونه سواء أجادوا تقديمه أم لا؟ ولن أعقِّب على الإجابات التي هي في معظمها إجابات مبطَّنة سياسياً تمتدُّ أبعادها إلى ما وراء الأجوبة الوجودية العادية، وذلك لارتباطها بالحدث السياسيِّ المتحكِّم باتَّجاهات الفنانين وتصريحاتهم، فما يقلق حقَّاً هو تأثير هذه الإجابات في الجماهير، خاصة وأنَّ هؤلاء الفنانين هم في نظر المتلقِّين مُثُلٌ عليا، سلَّمنا بهذه الحقيقة أم لم نسلِّم بها، وتبقى بعض التساؤلات مفتوحةً في ذهني باحثةً عن إجابات شافية: متى سيتجاوز أبناء المجتمعات العربية هذه اللوثة الفكرية ويعودون إلى صوابهم؟ وهل سيسبق اختيار المَثَل الأعلى عملية التغيير تلك أم أنَّ فكرة المَثَل الأعلى سوف تُنسف من أصلها في المستقبل؟