الميركلية السياسية بين الأخلاق والمصلحة

2021.12.22 | 05:05 دمشق

myrkl-3.jpg
+A
حجم الخط
-A

السؤال حول علاقة السياسة بالأخلاق قديم قِدَم الأشكال البدائية للتنظيمات الاجتماعية والدولة؛ بين من يفصل السياسة عن الأخلاق ويعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة، كالمكيافيلية، وبين من يرى أن ثمة ترابطًا وثيقًا بينهما، كأساس لحياة أكثر عدلًا وإنسانية. المفهوم الثاني للسياسة حديث نسبيًا ومرتبط بظهور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتطور النُظم الديمقراطية بُعيد الحرب العالمية الثانية، بما وفرته من ضمانات دستورية وفصل بين السلطات وحرية التعبير.

تنتشر فكرة الفصل بين السياسة والأخلاق في الدول التي يحكمها مستبدون لا يتورعون عن ارتكاب كل الخطايا لتحقيق أهدافهم والتشبث بالسلطة. ومع ذلك، يضمحل الفارق الأخلاقي في ظروف الصراعات الحادة، وهو ما لم يمنع الولايات المتحدة (الديمقراطية) من استخدام القنبلة الذرية لإخضاع اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.

كما انسحب الخلاف حول علاقة السياسة بالأخلاق على مسألة اختيار الطريق الأكثر نجاعة في النضال من أجل الاستقلال؛ هل هو الكفاح المسلح، كما في الجزائر على سبيل المثال؟ أم تبني الطريق السلمي، كما حصل في الهند بقيادة المهاتما غاندي وفي جنوب أفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا؟ بالفعل، يؤخذ على الأسلوب الأول بأنه غالبًا ما يُفضي إلى تشكيل أنظمة مستبدة بعد النصر، في حين تتلاءم الطرق السلمية في النضال من أجل الاستقلال مع عملية الانتقال السلسة نحو أنظمة أكثر ديمقراطية. فالعنف، بوصفه فعلًا لا أخلاقيًا في نهاية المطاف، يترك شروخاً سياسية واجتماعية عميقة يصعب تجاوزها بسهولة، تبعاً لحدة الصراع ومدته، ما يؤخر ويعيق ويعقّد عملية الانتقال نحو الديمقراطية.

إن نجاحات ميركل وقرارها بعدم الترشح للانتخابات الجديدة ونظافة كفها وعودتها لتعيش النمط الإنساني البسيط من الحياة هو فعل أخلاقي مكتمل في الممارسة السياسية

تطرح التجربة الألمانية مسألة العلاقة بين السياسة والأخلاق بطريقة جديدة وواعدة، تتمثل في السياسات المتبعة خلال فترة حكم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على نحو خاص، والتي تمكنت من البقاء في منصبها وقيادة ائتلاف حزبي بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي تنتمي إليه، لأربع دورات متتالية بين عامي 2005 و2021، وقد اعتزلت السياسة مؤخرًا وطوعًا، متمنية أن تحظى بـ "ساعات نوم أكثر وألا تكون مضطرة لاتخاذ القرارات"، كما صرّحت في إحدى المقابلات. إن نجاحات ميركل وقرارها بعدم الترشح للانتخابات الجديدة ونظافة كفها وعودتها لتعيش النمط الإنساني البسيط من الحياة هو فعل أخلاقي مكتمل في الممارسة السياسية، ويسمح لنا باستخدام مصطلح جديد بهذا المعنى هو "الميركلية السياسية".

في خلفية ظاهرة "الميركلية السياسية" يكمن التوجه السياسي الديمقراطي الاجتماعي لألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد تم التركيز على تجاوز آثار الحرب من خلال التنمية الشاملة، بحماية جيوش الحلفاء، وصولًا إلى توحيد ألمانيا بُعيد انهيار سور برلين. في هذه الظروف، تنافست الأحزاب الحاكمة على تقديم البرامج الإنمائية الطموحة وتجسيدها كإنجازات، مدفوعة بالرغبة الوطنية الصادقة في تجاوز السياسات النازية اللاأخلاقية قبل الحرب وفي أثنائها.

وتتميز "الميركلية السياسية" أيضًا بكونها سياسة نسوية ناعمة في القيادة والإدارة، لكنها لا تفتقر إلى الحزم حين يتطلب الأمر ذلك، بعيدًا عن الجدل والتنافس والحدة، كأساليب ذكورية صرفة ربما تقود إلى استخدام وسائل عنيفة في العلاقات الدولية قد تصل إلى شنّ الحروب. وهي تختلف عن سياسة رئيسة الوزراء البريطانية المثيرة للجدل مارغريت تاتشر في الثمانينيات، كسياسة رأسمالية محافظة تم اعتمادها بالتحالف والتنسيق مع الرئيس الجمهوري الأميركي رونالد ريغان. كما أثبتت ميركل قدرتها على التعامل مع بعض التصرفات الذكورية الفظة في أثناء قيادتها للاتحاد الأوروبي، مثل سخريات الرئيس الأميركي ترامب واستفزازات الرئيس الروسي بوتين، فقد اصطحب الأخير كلبه إلى لقائها وهو يعرف خوفها من الكلاب، فعللت ميركل تصرفه بأنه يريد أن يثبت رجولته!

لكن أهم ما يميز "الميركلية السياسية" هي البراغماتية الواقعية، كمصلحة وطنية تنموية في الداخل من جهة، ومصلحة عالمية من أجل تحقيق السلام والأمن الدوليين بالمعنى الشامل والمتوازن من جهة أخرى. بهذا تتفوق "الميركلية السياسية" على النموذج البراغماتي الأميركي القائم على ليبرالية: "دعه يعمل دعه يمر"، المتمثل في سياسات الجمهوريين على نحو خاص، والتي يعمل الديمقراطيون على الحد من آثارها الاجتماعية فحسب.

لا يعني ما سبق وصف سياسة ميركل بالطهرانية والكمال، فما زال من الصعب تحقيق مستويات عالية من العدالة من خلال الآليات الاقتصادية العالمية المعمول بها حاليًا، لكن السياسة هي فنّ تحقيق الممكن في نهاية المطاف، بذلك تعدُّ "الميركلية السياسية" أخلاقية بقدر ما تعمل على تحسين معيشة الناس ورفاهيتهم، وبمقدار ما تنعكس آثارها على البيئة، لتصبح مكانًا أفضل لحياة جميع الكائنات. يمكن القول إن ميركل أنزلت الأخلاق التي دعا إليها كبار الفلاسفة الألمان، مثل كانط، إلى أرض الواقع، بعد أن حامت في سمائه لعدة قرون.

التجربة الألمانية ملهمة من أجل معالجة أكثر من مسألة بالنسبة للسوريين؛ من تجاوز آثار الحرب إلى اعتماد سياسة المصلحة في التعامل مع كافة الدول وبناء اقتصاد وطني متين

كما تمثل الترابط بين السياسة والأخلاق في عهد ميركل بقرارها الجريء باستقبال واستيعاب ما ينوف عن مليون لاجئ، بينهم مئات آلاف السوريين، كمصلحة مشتركة ورؤية إنسانية بعيدة المدى، رغم ما يمكن أن يحمله هذا القرار من أخطار على بنية المجتمع الألماني على المدى القريب، والمتمثلة في زيادة نفوذ الأحزاب اليمينية وشعاراتها العنصرية. ولو حذت باقي دول الاتحاد الأوروبي حذو ألمانيا لكانت حال اللاجئين السوريين أفضل بكثير، ما وفّر عليهم المزيد من المعاناة واستغلال قضيتهم من قبل بعض دول الجوار.

ويتعلق أحد جوانب السياسة الأخلاقية باتخاذ القرارات بعيداً عن الارتجال والعواطف المرتبطة بأيديولوجيات وتوجهات عقيدية صماء، إنما بالاستناد إلى معطيات واقعية، وهذه سمة من سمات "الميركلية السياسية"، حيث تتجلى القدرة على الفصل بين الاعتقاد الفردي والعمل من أجل المصلحة العامة. كما أن التأني في اتخاذ القرارات يساعد في تحقيق إنجازات مستدامة ويمكن البناء عليها بثبات، فلا تضيع الحقوق وتتراكم الخسارات على المدى الطويل. المثال الأبرز لما سبق هو طريقة إدارة الصراع العربي - الإسرائيلي، فلو قبِل العرب بقرار التقسيم عام 1947 وعملوا على بناء القدرات والأخذ بأسباب التطور، لكانوا قد تجنبوا كثيرا من الهزائم ووفروا مزيدا من الأرواح، فضلا عن اتساع الهوة بين الحق وإمكانية إحقاقه، وربما ضياعه إلى غير رجعة!

التجربة الألمانية ملهمة من أجل معالجة أكثر من مسألة بالنسبة للسوريين؛ من تجاوز آثار الحرب إلى اعتماد سياسة المصلحة في التعامل مع كافة الدول وبناء اقتصاد وطني متين. صحيح أنه ليس لدينا تلك القاعدة العلمية والصناعية للبناء عليها، مثلما توافرت في ألمانيا قبل الحرب، لكننا نمتلك كثيرا من الخبرات والطاقات البشرية المهمة، التي يمكن الاستثمار فيها لبناء سوريا جديدة وديمقراطية، شرط توافر الإرادة الوطنية عند نُخب متفانية ونظيفة الكف، كما حصل لكثير من البلدان التي نُكبت بالحروب والكوارث، ودولة رواندا الأفريقية خير مثال. إن "الميركلية السياسية" هي تطبيقٌ لمقولة نتداولها ولا نعمل بها غالبًا، وهي "خير الأعمال ما ينفع الناس".