icon
التغطية الحية

الموسيقا كدواء لأمراض العقل والنفس في الحضارة الإسلامية

2022.09.24 | 08:23 دمشق

موسيقا
محمد أوزملّي
+A
حجم الخط
-A

"من أفضل العلاجات وأكثرها فاعلية هي تقوية القوة العقلية والروحية للمريض، لمنحه المزيد من الشجاعة لمحاربة المرض، وخلق بيئة محبة وممتعة لهُ، وسماعه إلى أفضل موسيقا. وإحاطته بأشخاص يحبهم"- ابن سينا (980-1037).

العلاج بالموسيقا عند الحضارات القديمة

يمكن أن تثير الموسيقا مشاعر التسامح والرحمة والمتعة والشجاعة، ما يشير إلى أنها يمكن أن تؤثر على المشاعر البشرية. فكما ذكر الفيلسوف كونفوشيوس: "الموسيقا يمكن أن تحسن البصر، وتزيد من حدة السمع، وتحسن من عمل الدورة الدموية". ولذلك يعد فن الموسيقا رمزاً من رموز الحضارة. وقد أشارت الدراسات التاريخية إلى أن الموسيقا كانت وسيلة علاج عند أغلب الحضارات القديمة (بلاد الرافدين والمصرية القديمة واليونانية والهندية والصينية)، حيث كان العلاج بالموسيقا يمكن أن يلعب دوراً مهماً في التعامل مع مشاكل الصحة الجسدية والعقلية والروحية.

وذكر الشاعر اليوناني هوميروس قدرة العلاج بالموسيقا على وقف النزيف. لذلك قيل إن العلاج بالموسيقا مناسب للمرضى الذين خضعوا لعملية جراحية. كما أوصى فيثاغورس أيضاً بتطبيق العلاج بالموسيقا على الشخص شديد المزاج وعلى أولئك الذين يعانون من خيبة الأمل، حيث اعتقد أيضاً أن العلاج بالموسيقا فعال جداً في علاج الأمراض التي تسببها اضطرابات معينة، ويُذكر أن فيثاغورس طبّق عملياً العلاج بالموسيقا على شاب مخمور من تاورمينا (في صقلية) لاستعادة عقله وتهدئته.

كما تم تطبيق العلاج بالموسيقا كخطة للتداوي في الحضارة الرومانية، حيث استخدمها المجتمع الروماني لتسكين الحزن والتغلب على الهستيريا وتخفيف الألم من لدغات الحشرات السامة وعلاج الأمراض الجرثومية وعلاج المرضى البكم.

موسق
نقش مصري قديم لعازف موسيقي

أما في الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية)، فقد تضمنت الموسيقا علاجاً لبعض المرضى. وكان في "منف" معبد صغير بني في عهد الأسرة السادسة (2280 قبل الميلاد)، مخصص لعلاج المرضى الذين يعانون من أمراض نفسية وعصبية عن طريق فرق موسيقية خاصة بالمعبد، تعزف ألحاناً هادئة مع تناولهم لبعض الأعشاب المهدئة للأعصاب. كما كان في أبيدوس معبد آخر للاستشفاء، وكان الكهنة يعالجون المرضى بالصلاة المرتلة على أنغام الموسيقا من دفوف وصاجات ونراجيل ونايات وغيرها بمعاونة فرقة موسيقية مخصصة تقيم جلسات للرقص الجماعي المنظم للمرضى.

العلاج بالموسيقا عند علماء المسلمين 

يبدو أن العلاجات النفسية والعقلية بالموسيقا في العصر الإسلامي منذ العصور الوسطى قد شمل استخدامات عديدة منها ما هو متوارث حتى الآن من المديح في الموالد النبوية الشريفة والموسيقا في طقوس "السماع" من قبل الدراويش الصوفيين في مراكزهم المعروفة باسم "الزاوية". فقد استخدم أتباع الطريقة الصوفية، بتوجيه من شيخهم" السماع " كعلاج روحي وجسدي وعقلي للملل والتعب من تقلبات الحياة، وشوق للقاء "الآلهة" فهذه الطقوس أساسية لدى الصوفية لأنها تعتبر وسيلة (أي الاقتراب) من الله سبحانه وتعالى من خلال حاسة السمع، ويقال أيضا إنها الوسيلة لنيل راحة البال وتطهير النفس التي أخطأت، فحقيقة السماع تحدث عندما يختبر الصوفي الوجد (النشوة الروحية في مشاهدة عظمة السر الإلهي) ويشعر بنفسه بالفناء (فناء الذات أو الموت بينما لايزال على قيد الحياة جسديًا).

رقص
مولوية صوفية

والجدير بالذكر إن الموسيقا لم تكن موجودة داخل طقوس الصوفيين والدراويش إلا في وقت لاحق، حيث أوجدت في البداية عند الحضارة الإسلامية كعلاج نفسي وعقلي، فقد استُخدمت من قبل الكندي والفارابي وابن سينا كطريقة علاجية للحالات المرضية، ووصفوا تأثير النغمات والألحان والايقاع على الجسد والنفس.

ذكر ابن سينا في كتابه "القانون في الطب" أن في الموسيقا علاجاً لعدد من الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب الإنسان، مثل المالنخوليا التي يصاب صاحبها بأعراض منها "الإفراط في التفكير، ودوام الوسوسة، والنظر الدائم إلى الشيء الواحد، وهذيان الكلام، والخوف من أشياء لا تخيف في العادة مثل سقوط السماء عليه، أو ابتلاع الأرض إياه". وقد ذكر أيضاً قائمة من العلاجات لهذا المرض أهمها "تطريب المريض بالسماع إلى الموسيقا" باعتبارها أشياء مهمة يمكن أن تشغله عن الفراغ والخلوة والتفكير المبالغ بهم.

كما إن العلاج بالموسيقا أخذ جانباً مهماً في رسائل "أخوان الصفا"، واعتبروها كأحد جوانب النهج الفلسفي المجازي الواسع الذي يُعبّر بالمعنى الواسع عن الانسجام بين المريض والمقامات أو النغمات. حيث قدموا في هذا دراسة حول نغمات العود وتأثير كل نغمة على مزاج الإنسان، وتطورت هذه الطريقة العلاجية لتدخل من قبل العلماء المسلمين في البيمارستانات (المشافي) كطريقة علاجية فعالة ومستخدمة رسمياً للأمراض العقلية والنفسية.

الموسيقا كعلاج نفسي وعقلي في البيمارستانات الإسلامية (المشافي)

 اعتمدت البيمارستانات العربية " المشافي " بعلاج الأمراض العقلية والنفسية بالموسيقا منذ العصر الأيوبي والمملوكي، مثل " بيمارستان قلاوون بالقاهرة، وبيمارستان النوري بدمشق، وبيمارستان أرغون الكاملي بحلب، وبيمارستان سيدي فرج بفاس، وبيمارستان منصور الموحدي بمراكش".

تم بناء هذه البيماراستانات لتكون مأوى للأمراض العقلية وتعالج المرضى الذين يعانون من الاكتئاب بالموسيقا والأعشاب، ولم تعتمد على موسيقا الآلات فقط، بل شملت " الغناء وتلاوة القرآن، وصوت الماء" داعماً للآلات الموسيقية.

كما إن التصميم لعب دوراً في النظام الصوتي في بعض البيمارستانات. حيث استخدام قاعة أو مسرح مقبب للعرض، وذلك لتعزيز التأثير العلاجي من خلال عكس الصوت عن جدرانها المقعرة، مما أدى إلى تركيزه في مركز القاعة، وبالتالي ساعد هذا النظام الصوتي في نشر صوت الموسيقا وتضخيمه.

مارستان
مدخل البيمارستان النوري بدمشق

كانت وظيفة هذا العلاج هي الترفيه عن المرضى وتهدئتهم وتخفيف الألم وذلك من خلال خلق جوٍ هادئٍ للمرضى. ففي بيمارستان قلاوون في القاهرة والذي كان يضم أصحاب الأمراض العقلية من الجنسين. فبحسب كتاب "وصف مصر" (والذي ألّفه مجموعة من العلماء الفرنسيين أبان الحملة الفرنسية على مصر) ، فقد ذكر بأنه كانت تكلفة كل مريض في اليوم قطعة من الذهب (دينار)، وكان يوضع في خدمته شخصان، كما كان المرضى الذين يعانون من الأرق ينقلون إلى قاعات منفصلة، وهناك يسمعون الموسيقا التي تناسب حالتهم، وحالما يبدأ المرضى في استرداد صحتهم يتم عزلهم عن الآخرين، ويتاح لهم الاستمتاع بمشاهدة الرقص، وتعرض أمامهم مشاهد كوميدية.

مارستان
بيمارستان قلاوون في القاهرة

لم تكن البيمارستانات دائما مأجورة كالتي بنيت في القاهرة "بيمارستان قلاوون" وإنما كانت أغلبها تبنى من قبل "الوقف" وتسعى لاستطباب الفقراء دون الأغنياء، إلا إذا لم يجد الأغنياء دواء لعللهم في غير هذا البيمارستان، ومن الأمثلة على ذلك "دار الشفاء" الذي بناه السلطان العثماني "بايزيد الثاني" عام 1488 ميلادي، حيث عُيّن عشرة عازفين على آلات مختلفة يعزفون للمرضى ثلاثة أيام في الأسبوع بمقامات مختلفة ومدروسة بحيث تناسب الأمراض، وبيمارستان النوري في دمشق والذي بناه  نور الدين بن زنكي سنة 1154 ميلادي. حيث كان المريض فيه يحظى بعلاج خاص، في عيادات متخصصة وشديدة المراقبة، أو في أقسام الأمراض العصبية والنفسية التي كانت المعالجات فيها تجرى من قبل أخصائيين، بوسائل أقرب إلى وسائلنا العصرية، كالخضوع للمنوم الصحي، واستخدام الموسيقا، وعروض الرقص والمشاهد الكوميدية.

عازف
لوحة لجوقة موسيقية عربية

بقي هذا النمط العلاجي سائداً في البيمارستانات الإسلامية حتى القرن التاسع عشر وقدم الكثير من الأبحاث والدراسات العلمية من قبل العلماء المسلمين أمثال ابن سينا والكندي والفارابي وغيرهم من العلماء، شرحوا فيها أثر كل مقام ولحن على الحالات المرضية، العقلية والنفسية، فأصبحت الموسيقا بمثابة اللغة التي يُخرِج من خلالها المريض أفكاره ومشاعره (الضغوط النفسية، الحزن، الوحدة، القلق...).

وعلى الرغم من أن العلاج بالموسيقا في عصر الحضارة الإسلامية قد انتهى بحلول القرن التاسع عشر، إلا أنه لا يزال وثيق الصلة بنهج الطب الحديث. ويرجع ذلك إلى إدراك فعاليته الأكثر تشجيعاً كدواء تكميلي. لهذا فقد أنشأت مصر "الجمعية الوطنية للعلاج بالموسيقا" عام 1950، ثم تأسس بعدها المعهد الوطني لحماية الطفولة في تونس ومركز الشرق الأوسط للعلاج بالموسيقا في الأردن، ثم لبنان عام 2006 بمبادرات شخصية اقتصرت على عدد من المتخصصين في علم النفس لافتتاح مركز يخص علاج الأمراض النفسية بالموسيقا، وحتى وقتنا الحالي تقام دراسات وأبحاث علمية لمعالجة بعض الأمراض بالموسيقا لنشهد من خلالها عودة البيمارستانات القديمة، ولكن بشكل حديث وحضاري مستندة على التجارب والأبحاث التي تأسست عليه.   


مراجع:
  1. scientific reseach : Music Therapy in Medicine of Islamic Civilisation - Roziah Sidik, Azmul Fahimi Kamaruzaman and Mohd Jailani Abdullah
  2. Music Therapy and Mental Health-
  3. https://muslimheritage.com/music-therapy-and-mental-health/
  4. -العلاج النفسي بالموسيقا – د. عبد الفتاح نجله -2006