في أحد أيام الجمعة من عام 2018 خرج أحمد المقيم الآن في مخيم الجزيرة في أطمة بريف إدلب، للتنزه برفقة صديقه خلال العطلة الأسبوعية من المدرسة، لكنه عاد في صباح اليوم ذاته من دون ساقين، بعد أن انفجرت به قذيفة من مخلفات الحرب، وعلى باب دارهم صرخت والدته حين رأت أعمامه يسعفونه، لم تكن تنادي على طفلها، بل على ساقيه المبتورتين.
ورغم المأساة التي غيرت مجرى حياة أحمد، إلا أن عائلته كانت محظوظة بعودة ابنها حيّاً، بالمقارنة مع آلاف العائلات السورية التي خسرت أحد أفرادها بانفجار الألغام ومخلفات القصف، بينما يتربص هذا المصير بنحو 4 ملايين مدني في منطقتي إدلب وريف حلب وحدهما.
يسلّط تلفزيون سوريا في وثائقي جديد من إنتاجه حمل عنوان "الموت الموقوت"، الضوء على قضية الألغام والقنابل العنقودية وخطرها الذي يهدد حياة المدنيين السوريين، من خلال تتبع أسئلة رئيسية مثل، ما هو دور النظام وروسيا من بين القوى المتصارعة الأخرى في سوريا بهذه القضية؟ ولماذا يحصل الأسد على تمويل من منظمات دولية في هذا الملف؟ وكيف يكتشف السوريون مواقع الألغام في ظل التغير المستمر لخرائط النفوذ في بلادهم؟
المتورطون الرئيسيون في زراعة الألغام
المتهم الأول والأبرز بزرع الألغام في الأراضي السورية هو النظام السوري، إذ تتركز مخلفات الحروب في مناطق شمال سوريا الخارجة عن سيطرته، ولا سيما على خطوط التماس في جبهات القتال، في سراقب وجبل الزاوية وريف حلب الغربي وعفرين والباب وجرابلس ومارع وجسر الشغور، بل وتمتد الألغام المزروعة عمداً، أو مخلفات الحرب الناجمة عن قصف قوات النظام، إلى الغوطة الشرقية ودرعا جنوبي سوريا وغيرها الكثير من المناطق، وأبرز قاسم مشترك بين هذه المناطق هي إما أنها ما تزال خارج سيطرة النظام حتى الآن، أو أنها سبق أن كانت ثائرة ضده.
"جميع هذه المناطق فيها مخلفات حرب، أو ألغام عشوائية زرعها النظام أو الميليشيات التابعة له، وهذا أشد خطورة، فحتى الميليشيات زرعت ألغاما"، يقول مدير الدفاع المدني رائد صالح في فيلم "الموت الموقوت".
التحالف الدولي للقضاء على الذخائر العنقودية وثق وحده أكثر من 600 هجوم بالذخائر العنقودية، من قبل النظام السوري والقوات الروسية، بين تموز 2012 وحزيران 2018، واتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" النظام السوري باستخدام 6 أنواع من الذخائر العنقودية، و 7 أنواع من الذخائر الصغيرة المحرَّمة دولياً، ووثقت مقتلَ مدنيين بتلك القنابلِ المحظورة، التي وصفتها بأنها "تهدد السوريين لأجيال قادمة".
واتهمت منظمات سورية النظام وروسيا باستخدام هذه القنابل لقتل أكبر عدد من المدنيين خلال القصف أو حتى بعده، خلال لعب الأطفال أو زراعة الأراضي، لمنع النازحين من العودة إلى منازلهم وأراضيهم.
المنظمات الدولية تموّل النظام
ورغم رفض النظام للتوقيع على اتفاقية "أتاوا" التي تفرض حظراً شاملاً على زراعة الألغام المضادة للأفراد وتقضي بتدميرها، ورغم إدانة 162 دولة لاستخدام الذخائر العنقودية في سوريا، والتي يجزم مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، بأن الطرفين الوحيدين اللذين استخدماها في الحرب السورية هما النظام وروسيا، نجد أن الأمم المتحدة متورطة بتمويل النظام بذريعة المساعدة في إزالة الألغام.
ويبدي مدير الدفاع المدني رائد صالح استغرابه من هذا الإجراء، إذ تقوم الأمم المتحدة بتمويل الجاني الذي سبق أن ألقى هذه القنابل أو زرع الألغام بنفسه، رغم أن الاتفاقيات الدولية تنص بوضوح على أن الجهة التي اقترفت جرم زراعة الألغام هي المسؤولة عن إزالتها، في حين يبقى التمويل في شمالي سوريا محدود جداً رغم وجود منظمات دولية مختصة بإزالة الألغام وعاملة في المنطقة.
الطامة الأكبر أن بيانات الصليب الأحمر تظهر نشاطاً في مناطق النظام، عبر التمويل المالي واللوجستي، في الوقت نفسه الذي تتجاهل فيه المؤسسات العاملة عن مناطق المعارضة، ما دفع بمعدّي فيلم "الموت الموقوت" لتوجيه أسئلة لمنظمتي "أونماس" (UNMAS) التابعة للأمم المتحدة والمتخصصة بإزالة الألغام، ومنظمة الصليب الأحمر، حول موقفهما من دعم جهة متهمة بارتكاب جرائم حرب واستخدام أسلحة محرمة، فكان الرد إما بالتجاهل التام أو بالالتفاف على جوهر السؤال.
خرائط تكشفها أجساد السوريين
ومع تغير خرائط النفوذ في سوريا بشكل مستمر، وإصرار القوى المتصارعة على عدم الكشف عن خرائط الألغام، يكتشف المدنيون السوريون مواقع الألغام ومخلفات الحرب في أجسادهم، كما يوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، خلال ظهوره في فيلم "الموت الموقوت".
وبحسب البيانات، ظهر رابط واضح بين ارتفاع عدد ضحايا الألغام في منطقة ما وتغير القوى المسيطرة عليها أكثر من مرة، لذلك نجد أن حلب تتصدر عدد ضحايا الألغام في سوريا، يليها الرقة ودير الزور ودرعا، والقاسم المشترك بينها أنها سقطت بيد قوى متعددة على فترات متباينة من الحرب، وكل جهة من هذه الجهات انسحبت تاركةً وراءها حقول مجهولة المواقع من الألغام.
وأدى هذا الوضع حتى الآن إلى مقتل وإصابة 77535 سورياً بسبب الألغامِ والذخائر بين عامي 2011-2020، 83% منهم من المدنيين، بحسب منظمة العمل ضدَّ العنف المسلح، في حين تشير أرقام "برنامج الأممِ المتحدة لتنسيقِ الشؤونِ الإنسانية" إلى وجود نحوِ 300 ألفِ قطعةٍ من مختلفِ الذخائرِ غيرِ المنفجرة، في 10 محافظات سورية.
على خلفية هذه الصورة التي تتبعها فيلم "الموت الموقوت" مقاطعاً الوثائق والإحصائيات بتصريحات المعنيين، يبدو مع كل أسف أن أحمد لن يكون آخر الضحايا، كما لم يكن أحد ممن سبقوه، في ظل موقف دولي شديد الالتباس من النظام وحلفائه، يسمح للجناة بتلغيم البلاد بكاملها، كقنبلة موقوتة.