المنهجُ المستترُ لشيطانِ التعليم في سوريا

2021.08.18 | 06:46 دمشق

2012_syria_crd_presser.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا شكّ أنّ التعليمَ كان من أبرز وأخطر الملفات التي طالتها تعقيداتُ الحربِ في سوريا، لم تنقلِ البلادَ إلى حالةٍ مؤلمةٍ من الخراب فقط، بل جعلتِ الأجيالَ السوريةَ الناشئة مفتقدةً أبسط حقوقها الآدمية. أجيالٌ كاملةٌ تعيش اليوم الشتاتَ والضياع بأبشع صورهما، توحي بمستقبلٍ مفلسٍ من الآمال والوعود، اتضحت مؤشراته من خلال الانفلات الأخلاقي، وزيادة معدلات الجرائم الجنائية، في ظلّ تراخٍ مقصودٍ من الأطرافِ المسيطرة لعدة غاياتٍ وأسبابٍ متداخلة. وفي حقيقة الأمر كان يتمُّ تخطيطُ المناهج التعليمية في سوريا عبر عقودٍ خمسة، وفق سياسةٍ ممنهجةٍ بغرضِ تحقيقِ الأهداف المُعلنة للعملية التربوية، في حين نجد أنّ نواتجَ المنهج المستتر مريبةٌ وغامضة. فممارسةُ السلطة في المجتمعِ المدرسيّ تحمل دروساً غير مباشرة في التبعيةِ القسرية لعقليةِ النظام الحاكم، والتي ازدادت وضوحاً بعد عام 2011. ومع تزايد نداءات السوريين بوجوب تدريس مادة الأخلاق في المدارس، كحلٍّ إسعافيّ لما تشهده البلاد من دمارٍ وعبثية، نجد أنّ وزارةَ المعارف السورية في خمسينياتِ القرن الماضي كانت تدرّسُ هذه المادة في المرحلة الثانوية، عبر كتبٍ مدرسيةٍ من أبدع ما تكون طرحاً وعرضاً للأفكارِ الأخلاقية العامة.

عدّتْ منظمةُ اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة التي تُعنى بشؤون الطفولة، أنّ تدهورَ مستوى تعليم الأطفال السوريين هو الأسوأ والأسرع في تاريخ المنطقة

أما اليوم فحركةُ تعديلِ المناهج المستمرة والتي أدّت إلى مزيدٍ من التدهور الفكري، لا تزال تفضي إلى سجالٍ محمومٍ بين الوزارة البائسة وبين عموم السوريين، الذين تنبّهوا إلى السياسةِ الخفيّة للمناهج التعليمية، التي تساهم في تشكيلِ صورةٍ مشوّهةٍ عن الذاتِ والتاريخ والهوية، قائمة على تدجينِ التلاميذ، وتنميطهم على مساطر الانضباط، والأخلاق العسكرية حتّى يسهل انقيادهم وفق رغائب السلطة وأهواء المستبد. ورغم إلغاءِ مادة التربية العسكرية، وتغييرِ اللباس المدرسي الذي كان يحمل لوناً كاكياً على غرار البزات العسكرية، لا تزال عقليةُ العسكر تسيطر على المناهج، ولعلّ أوضح أشكالها مادة (القومية) التي تمجّد الأسد الأب، كذلك الابن، كما تحتفي بـإنجازاتهما التاريخية. كلّ ذلك في سبيلِ تجميدِ عقولِ الطلبة وبرمجتها وفق المسلّمة المقدسة: بقاء الحكم محصوراً ضمن العائلة الأسدية، طالما تقوم لهذا البلد قائمة.

وبينما عدّتْ منظمةُ اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة التي تُعنى بشؤون الطفولة، أنّ تدهورَ مستوى تعليم الأطفال السوريين هو الأسوأ والأسرع في تاريخ المنطقة، حيث اضطر ما يقرب من ثلاثةِ ملايين طفلٍ إلى التوقّف عن التعليمِ بسبب الحربِ المحتدمة، التي دمرت فصولهم الدراسية، كذلك أحلامهم ومستقبلهم، وتركتهم في حالةٍ متصاعدة من الرّعبِ وعدم التوازن. في هذا الوقت كشف وزيرُ التربية في حكومةِ تسيير الأعمال، دارم طباع، عن بدء إدخال "التعلّم الوجداني الاجتماعي" في مختلفِ المراحل التعليمية، بدايةً من هذا العام من خلال حصتين أسبوعياً، لتتوسعَ في السنوات التالية. مؤكداً على أهميته باعتباره أهمّ ركيزة من ركائز التعليم، يقوم الطالبُ من خلالها باكتسابِ مهاراتِ التعامل مع الآخرين والعملِ ضمن فريق، كذلك تعلّم قيم التعاطف والتسامح وتقبّل الآخر. وهذا علم قائم بحد ذاته، على حدّ زعمه، من شأنه أن يعزّزَ شعورَ المواطنة والانتماء. كما شدّد الوزيرُ على حاجةِ الأجيال إلى تنميةِ العلاقات الاجتماعية، لأنه "تبين من خلال الحرب التي نخوضها أننا كبيئةٍ اجتماعيةٍ كنّا نعاني من الانغلاقِ الذاتي، حيث لا يعرف كلّ منّا الآخر".  

ربما فاتَ الوزيرُ طباع أنّ الأخلاقَ العامة التي تمورُ في وجدانِ الأجيال الراهنة، خاصة بعد كسرِ شوكةِ الأحلام السورية، تتمحور حول الاتكالِ واللا مبالاة، كذلك انسحاق النشاط الإبداعي والاستقلال الفردي. أخلاقٌ لا يمكن أن تستقيمَ ببساطةِ الثرثرةِ المجانية لوزيرٍ منفصمٍ عن الواقع بطبيعة الحال. إذ إنّ المجتمعَ السوري اليوم يعاني أزمةَ قيمٍ وأخلاق، وأزمةَ تعليمٍ وتوعية، في وقتٍ يميل فيه طفلُ الحرب إلى القفز بسهولةٍ مدهشةٍ من مقعدِ المدرسة إلى عالمِ الجريمةِ والتسوّلِ والتشرّد، خاصة في المناطق التي شهدتْ أبشع أشكال القمع والعنف، كذلك الأماكن التي تنتمي إلى أحزمةِ الفقر المهمشة، إذ يعتبرون أنفسهم في منطقة فوضى وتسيّب، ولا يخضعون لأي سلطة سواء كانت مجتمعية، أو دينية، أو عائلية، أو سلطة القانون.

دعونا نؤكد أنّنا لسنا بصددِ مواجهةِ أزمةِ قيمٍ عامة فحسب، بل نواجه ما هو أسوأ من ذلك، احتباساً كارثياً من القيمِ السلبية على وشك الانفجار، يصبح معها العيشُ المشترك ضرباً من ضروب المحال. بناءً عليه فالمجتمعُ السوري بحاجةٍ ماسة لإعادةِ تقييمِ المعايير الأخلاقية، باعتبارها إحدى الآليات المهمة في النهوض بمستوى التعليم الذي وصلَ حافةَ الهاوية، يتعلم الطالبُ من خلالها القيمَ والاتجاهات الإيجابية من مثل: المسؤولية، واحترام وتقبّل الآخرين، والحوار، والنقد، وتقدير الوقت، والمشاركة، والمبادرة، والثقة بالنفس، والاعتماد على الذات، والإبداع. لكن في ظلّ عدم الشعور بالأمانِ الاجتماعي والاقتصادي، كذلك اليأس الذي يولّده الإحساس بالتهميش والإقصاء، تبدو هذه الآلية فاشلة، بل ومثيرة للضحك والاستهزاء.

التعليم برمته في سوريا بحاجةٍ إلى ثورةٍ شاملةٍ على الأمراضِ الاجتماعية، والقيمِ السلبية التي هي في الأساس سلاح الطاغي المستبد

يوماً ما وعلى جدرانِ إحدى المدارس في محافظة درعا خُطّتْ أولى عباراتِ الثورة السورية. عباراتٌ كان من الممكن لها أن تغيّرَ وجهَ التاريخ السوري، وتضعَ أسسَ وقواعد المواطنة والتعايش السلمي. لكن ما حصل أنّ الأطفال نال ما نالهم من الاعتقال والتعذيب. أمرٌ ما كان ليحصل إطلاقاً في أي بلد آخر غير سوريا. ففي ألمانيا مثلاً ومع خسارتها الفادحة في الحربِ العالميةِ الثانية، عبَّرتِ الشعاراتُ التي كُتبتْ على الجدرانِ المدمرة عن الطاقةِ الإيجابية التي تربّت عليها أجيال المجتمع الألماني، وعن روحِ البذلِ والعملِ من أجل الصالح العام، وأبرز ما خُطّ: (لا تنتظر حقّك، افعل ما تستطيع، ازرع الأمل قبل القمح). في المقابل من الصعوبةِ بمكان أن ينهضَ المجتمعُ السوري بالسهولةِ التي نهض بها المجتمعُ الألماني، في ظلّ نظامٍ فاشي مستبد، يسدُّ أفقَ الطموحات، خاصة أنه لا يعبأ بمعيار (الذكي الفريد)، بل يُدني من يمرّر له استبداده، ويُبعد الكفاءات والثقات، طالما أنه لا يستطيع توظيفهم لخدمةِ سياساته وتوجهاته. من ثم لا يجد كثيرٌ من المبدعين في أنفسهم رغبةً في الإنتاج، ولا قدرةً على الابتكار، وذلك بتأثيرِ طغيانٍ يسلبهم حتّى هذه الفضائل المُستحقّة.

على هذا فإنّ التعليمَ برمته في سوريا بحاجةٍ إلى ثورةٍ شاملةٍ على الأمراضِ الاجتماعية، والقيمِ السلبية التي هي في الأساس سلاح الطاغي المستبد. أما الوجه الخفيّ للحياةِ المدرسيةِ ودورها في تطبيعِ التلاميذ وتطويعهم لمعايير التسلّط، من الواضح تماماً أنّ هذه القواعد تهدفُ إلى تدجينِ الطفل، وتعويده على التقاطِ إشاراتِ الخضوعِ والامتثال، إما مكره أو مخدوع. حتّى حركات العيون التي يجب ألا تفارق ورقةَ الامتحان هي مقوّم من مقوماتِ التطبيع، وخطوة مبرمجة نحو الانصياعِ لإكراهاتِ المجتمع الطبقيّة والاجتماعية. في حين يُثبِتُ التحليلُ العلمي أنّ هذه الأساليب ما هي إلاّ تلطيفاً شكلياً لأسلوبِ الاستعبادِ القاسي، تنفذ إلى عمقِ الشخصيةِ الإنسانيةِ وتبرمجها بصورةٍ شمولية. فالطالبُ السوري لا يعرف قانونَ الطاعةِ العمياء حتّى يخبرَ الحياةَ في هذه المدارس، التي تهدف في نهايةِ الأمر إلى استلابِ شخصيته، وقمعه، ثم تشكيله على الصورةِ الثقافيةِ المشوّهة التي تريدها الطبقةُ المسيطرةُ على المجتمعِ السوري.