يثار بين فترة وأخرى، في بعض الأوساط الثقافية السورية، رأي مفاده أن الثورة السورية بعد عقد على قيامها لم تقدم حتى الآن إنتاجا ثقافيا، يتصادى والقيم الأخلاقية والشعارات السياسية التي رفعتها في بداية انطلاقتها، والرأي نفسه يتكرر على لسان مثقفين وكتاب في البلاد العربية، التي شهدت ما يطلق عليه موجة "الربيع العربي".
الحديث عن الإضافة الباهتة، التي وسمت الإنتاج الثقافي السوري في العقد الماضي، يستبعد في المقام الأول كتاب النظام ومثقفيه، على اعتبار أنهم مازالوا يعيشون في عالم المفاهيم القديم الذي خبروه، ومازالوا ينظرون إلى العالم من خلال نظارات النظام، لأسباب تتعلق بمواقف طائفية عند بعضهم، وبمواقف أخرى، قد يكون من بينها الخوف، والعجز عن اتخاذ مواقف أخلاقية، والبحث عن السلامة من بطش النظام وعنف أجهزته القمعية عند كتاب آخرين، وبمواقف إيديولوجية عند عدد منهم، وبخاصة من ذوي التوجهات اليسارية الكلاسيكية.
علينا في أثناء مناقشة هذه القضية ألا ننظر إلى سنوات الثورة فقط، بل ينبغي توسيع الرؤية لتشمل العقود السابقة أيضا
لا يفقد الرأي المشار إليه وجاهته، فالناظر إلى النتاج الثقافي السوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة، سيلاحظ من دون شك أن هذه السنوات لم تسفر عن حركة ثقافية جديدة، ولا عن نتاج ثقافي، يمكن أن يشكل علامة على المرحلة الحالية. والإنتاج الثقافي الذي ظهر في العقد الماضي كان يدور في إطار العادي والمكرور، بحيث عجز عن نقل هول المأساة التي يمر بها الوطن السوري، فجاءت الكتابات باهتة، لا تنقل إلا أجزاء من هول المشهد وكآبته.
لكن علينا في أثناء مناقشة هذه القضية ألا ننظر إلى سنوات الثورة فقط، بل ينبغي توسيع الرؤية لتشمل العقود السابقة أيضا، فالإنتاج الأدبي والثقافي تراكم معرفي لا يمكن أن يبزغ فجأة بين ليلة وضحاها، وحالة التصحر الثقافي والفكري وسمت الحياة الثقافية السورية منذ بداية الثمانينيات، أي: مع اكتمال خنق الحريات، وسيطرة الأجهزة الأمنية الطائفية، وترييف المدن وتحويلها إلى قرى كبيرة. في ظل كل هذه العثرات، يبدو من العبث الحديث عن إنتاج ثقافي متميز حتى قبل الثورة بعقود، وهو أمر يدركه كل من يقارن بين الحركة الثقافية والفكرية في العقود الماضية، والحراك الثقافي والفكري الذي وسم الحياة السورية قبيل الانقلاب البعثي، الذي خنق الحركات السياسية والتطور الاجتماعي، وهذان عنصران أساسيان في نشوء أي نتاج ثقافي يعتد به.
ثمة افتراض يجد رواجا في بعض الدوائر الفكرية والثقافية، يرى أصحابه أن الثورة محفز للإبداع الأدبي والفكري. غير أن الأمر في الحالة السورية مختلف كليا، بسبب فرادة همجية النظام التي تجاوزت كل القواعد الأخلاقية، التي دونتها الأمم المعاصرة للتعامل فيما بينها في أثناء الصراعات والحروب. فقد تحولت الثورة إلى حرب شهدت انتهاكات فظيعة قام بها النظام السوري، واستخدم فيها أسلحة محرمة، وقتل مئات الآلاف في المعتقلات، وهجر الملايين من الناس، لذا كان الهاجس الأساسي للفرد هو تلبية نداء الطبيعة في الحفاظ على الوجود الفيزيائي، وفي مثل هذه الظروف يغدو الحديث عن القضايا الثقافية، ناهيك عن الإنتاج الثقافي، ضربا من التفكير الطوباوي، في زمن يتعرض فيه السوريون لأبشع عملية إبادة في التاريخ.
وإذا استثنينا الحرب الأهلية الإسبانية، فإن الأمثلة التاريخية تشير إلى أن الإنتاج الأدبي والثقافي والفكري عادة ما يمهد للثورات والأحداث التاريخية الكبرى، ويتجاوز بكثير ما تنتجه تلك الثورات في السنوات التالية لاندلاعها، والتي تعجز عن إنتاج أدبي مميز. لقد كان لإنتاج مونتسيكيو وفولتير وديدرو أثر كبير في التمهيد للثورة الفرنسية، التي لم تفلح في إنجاب مثل هؤلاء إلا بعد عقود، أما الثورة البلشفية فأخفقت في إنجاب أدباء، على نحو ما فعلت روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويسعفنا تاريخ الأدب العربي بمثال أكثر وضوحا، فقد تراجع الشعر في بداية الإسلام عما كان عليه في العصر الجاهلي، بحيث لا تلتقط الذاكرة شاعرا مهما في العقود التالية لظهوره.
ينشأ ضعف الإنتاج الأدبي والثقافي في زمن الحرب من علو صوت الخطاب السياسي ذي الطبيعة اليقينية، وهيمنته على مختلف جوانب النشاط الإنساني، بما فيها النشاط الأدبي الذي لا يزدهر إلا في عالم الشك والاحتمال، فكيف إذا كان الخطاب الذي استعمله النظام منذ اليوم الأول للثورة دمويا، يلغي وجود الآخر المادي؟ في هذه الحالة، سينتفي كليا أي نشاط غير البحث عن حفظ الوجود من الدمار الذي يترصده.
يفترض القول بضعف الإنتاج الثقافي السوري، أن الاستجابة الثقافية لا بد أن تكون متوازية مع ما تطرحه الثورة من قيم وأخلاقيات، تتصل ببحثها عن الحرية والعدالة والديمقراطية. لكن، لا يجوز التغاضي عن حقيقة أن الثورة السورية قامت بها فئات محافظة اجتماعيا، ووقع العبء الأكبر من العمل الثوري على عاتق شباب، كان الهم الأساس له هو التخلص من سطوة الأجهزة القمعية، وهذا ما يفسر وضوح سؤال الكرامة في أذهان الناس، في حين كان سؤال الحرية بمعناه الأعم ضبابيا، وبخاصة في بيئات اجتماعية تنفر من الجديد، وتنكص إلى الماضي للبحث فيه عن خياراتها السياسية والفكرية. هذه ليست إدانة للفاعل الاجتماعي، بقدر ما هي توصيف للحامل الاجتماعي الذي نهضت الثورة على تضحياته وآلامه، وهي تضحيات هائلة بلا شك، ولكن هذا الفاعل الاجتماعي لم يكن مهيئا للمشاركة في إنتاج خطاب ثقافي، بسبب تكوينه الفكري والثقافي، وغياب أي مشاركة له في الحقل العام منذ زمن بعيد.
لا شك أن الثورة أحدثت الكثير من التطورات على المستوى الجمعي، وعلى مستوى الانفتاح على العالم الخارجي، ومناقشة الأفكار والقضايا، ولا شك أيضا أن الكثير من المفاهيم قد اقتحمت حياة جيل كامل، بفعل ما قامت به الثورة من تحرير للأبد الأسدي، والانفتاح على سيرورة التاريخ التي كانت مقفلة بفعل الأسدية، ولكن يجب ألا يغيب عنا أن دخول مفاهيم جديدة إلى الحياة الثقافية، وتجذرها في المجال العام، يحتاج عادة إلى فترة زمنية كافية، تختمر فيها تلك المفاهيم، وتترسخ في الوعي الاجتماعي، لتصبح جزءا أساسيا من مفردات الخطاب العام. فالتحول من استعمال ألفاظ ومفردات، تنتمي إلى مجال تداولي قديم، إلى الاستعانة بلغة جديدة تعبر عن الخطاب السياسي الجديد، والأفكار الجديدة، لا يمكن أن يتحقق بين يوم وليلة.
يقرر هيجل في واحدة من تأملاته العميقة أن "بومة منيرفا لا تحلق إلا في الظلام"، وهو قول يقصد به أن الكائن البشري لا يتمكن من فهم مرحلة تاريخية معينة واستيعابها إلا بعد نهايتها. لم تنته المرحلة التاريخية حتى الآن، وأغلب الظن أن الأجيال القادمة ستجد الكثير لتكتب عن مأساتنا، وستستخلص من العبر والعظات ما لا تتمكن منه "بومتنا" التي تحلق الآن عاليا تحت عين الشمس.