المقاومة بين الصوت والمعنى

2021.05.29 | 05:27 دمشق

zh20.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل يمكنني أن أعشق فلسطين دون أن أكون مقاوماً، هل يمكنني أن أدافع عن القدس وحيفا دون أن أتسمى بصفة المقاوم؟ هل يمكنني أن أناضل وأتظاهر من أجل بلاد عشقناها، دون أن تنعتوني بنعت (المقاوم) فتلك الكلمة باتت أشبه بوصمة عار، أشبه بشتيمة أو سباب، لا يطيقه الأحرار الأصلاء، غير الأدعياء، والمنافقين من أوصياء الصوت على القضية، ممن يعتبرون أن فلسطين وقضيتها حصان يمكنهم ركوبه والوصول عبره إلى غاياتهم السيئة.

مذ أطلق الإمام الخميني عبارته الشهيرة (طريق القدس يمر عبر بغداد) وكان ذلك إبان الحرب مع العراق، وباتت القضية الفلسطينية في خبر كان، فقد دخلت في زواريب ومتاهات أضاعت بوصلتها بحق، ولم يستفد من ذلك التيه في الطريق الذي يعرفه الجميع، إلا طرفا المعادلة، من يدعي المقاومة ومن يحتل الأرض. فكلما تاه قائد وأراد حشد الحشود فيما وراء خيباته الداخلية أو خلف مديته الدموية وجوع بطون أتباعه، رفع عقيرته صارخاً ومهدداً بالويل والثبور لأولئك المحتلين ممن يسرقون الأرض والعرض، وما أن ينزل ذلك القائد الملهم من فوق المنبر حتى يعاود ذبح أعدائه في الداخل أو في الوطن، بعيداً عن قتال العدو.. المفترض.

ويوماً بعد يوم، ضاع طريق القدس وتشعبت مساربه، بين الزبداني وحلب والقصير ودير الزور، والفلوجة والأنبار واليمن وربما الخليج، استطال طريق القدس واستطال حتى بات ضرباً من ضروب مستحيلات المقاوم المعاصر، وتحولت كلمة المقاوم إلى نكتة أو مزحة أو شتيمة بين متلازمي القول والفعل.

يجب على أحد ما أن يحرر كلمة (المقاومة) ممن اختطفها، ليعود السياق إلى ذاته

فهل يمكننا أن نحب فلسطين رجاءً دون أن تسمونا مقاومين، هل يمكننا أن نتظاهر من أجلها ونضرب ونقاطع، دون أن ترموا فوقنا صراخ دجالي المقاومة وربيبتها الممانعة.. تلك المزحة السمجة، حيث يجب علينا أن نفرق في زمن الكذب والرياء بين من يدعي أنه سيقاتل ونسميه مقاوماً، وبين من يدعي أنه يرفض الاحتلال لفظياً ونسميه ممانعاً..

يجب على أحد ما أن يحرر كلمة (المقاومة) ممن اختطفها، ليعود السياق إلى ذاته، هي آفة لا تتوقف على مصطلح المقاومة، فدعاة الشعارات لم يتركوا مصطلحاً نقياً إلا واغتصبوه واعتقلوه ومنعوه عن مريديه الحقيقيين، حيث بات فعلاً لا رابط بين المصدر الصوتي للكلمة وبين معناها الحقيقي، باتت الكلمات والشعارات أصوات جوفاء تطلق من الحلوق، الأمن، الوحدة، الاشتراكية، التحرير، الوئام الاجتماعي، التفاهم الوطني.. كلها شعارات باتت خاوية من معانيها، يسمعها المواطن ويرددها ولكنه أول من يعرف أنها كلمات بلا معنى، وأحياناً تكون بقصد عكس المعنى،  مثلاً  جرب أن تردد كلمة "قوات الأمن" أمام أي مواطن عربي في البلاد العربية، فستجد أنه سيشعر بالاضطراب والخوف والقلق.. وسيكون بوضع أفضل لو أن هذه القوات ابتعدت عنه وعن بيته.

ما الذي ينبغي علينا فعله كي نحرر الحرية من سجنها، والمقاومة ممن اعتقلها واحتكرها

اللغة كلها باتت مختطفة، الأغاني الوطنية باتت مسلوبة المعنى، الأشعار الحماسية كذلك، وبالطبع الإعلام الحربي الذي يتلطى خلف كل ما يبث عبر التلفزيون المحلي، من برامج ثقافية وأطفال وبرامج ترفيهية وحتى دراما تلفزيونية، لا شيء بريء في بلاد الإعلام الموجه، كل شيء موجود ومعد بشكل جيد من أجل تمرير رسالة الحاكم من خلفها.. فما الذي ينبغي علينا فعله كي نحرر الحرية من سجنها، والمقاومة ممن اعتقلها واحتكرها.

فخلف كل ذلك الضجيج، هنالك شعب سلبت أرضه، وسلبت حريته، ينتظر أن تعود المعاني إلى تلك الكلمات.