المفتي الطّبيب أبو اليسر عابدين في رفقة السّلاح ومواجهة الاستبداد

2022.02.20 | 05:55 دمشق

sh_abo_alyesr.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الشّيخ الطبيب أبو اليسر عابدين طبيبًا ومفتيًا وعالمًا بعلوم الشّرع ومتقنًا للغات المختلفة ومؤلفًا بارعًا وغزيرًا فحسب؛ بل كان إلى جانب ذلك رجل مواقف فلم تخلُ محطة من محطات حياته من موقف عمليّ يصدّقُ فيه السلوكُ العلمَ ويتوافق فيه التّطبيق مع النّظريّة.

  • في الثّورة السّوريّة الكبرى

عام 1925م اندلعت الثّورة السّوريّة الكبرى في مواجهة المستعمر الفرنسي، وبسرعةٍ كبيرةٍ عمّت الكثير من مناطق سوريا، وكانت غوطة دمشق من المناطق التي اشتعلت فيها الثّورة وأقضت مضجع الفرنسيّين.

لم يكتفِ الشّيخ أبو اليسر عابدين بتحريض النّاس بالكلمة وبيان الحكم الشّرعيّ في وجوب جهاد المحتلّين الغاصبين بل إنّه في نهاره يكون في جامعه وجامعته وعيادته معلّمًا ومحرّضًا ومداويًا حتّى إذا أرخى اللّيل سدوله حمل السّلاحَ وانضمّ للثّوار في القتال، وكان يقوم في الكثير من الأحيان بحمل السّلاح وإيصاله إلى الثّوار في أكثر من جبهة ونقطة اشتباك في الغوطة، ومن المعروف عنه أنّه كان يسارعُ إلى التبرّع بدمه إن سمع أنّ أحد الثّوار بحاجة إلى ذلك، فكان وجوده مع الثّوار في ساحات القتال بسلاحه أو بما يحمله إليهم من سلاح وانخراطه في صفوفهم برأيه ودمه؛ من أكبر وسائل تثبيتهم وتقوية جبهتهم، إضافة إلى ما في ذلك من مغامرة كبيرة إن وصل الخبر للفرنسيّين وهو ما يزال يمارس تدريسه وطبابته.

  • نكبة فلسطين ورفقة السّلاح

عام 1948م عندما بدأت الحرب في فلسطين، والتي أدّت إلى نكبة فلسطين؛ كان الشّيخ أبو اليسر عابدين من أوائل العلماء الذين استنفروا النّاس إلى القتال، ودعوهم إلى النفير العام والجهاد في مواجهة العصابات الصهيونيّة.

وفي هذا الموقف أيضًا لم يكتفِ الشّيخ أبو اليسر عابدين بالتّحريض والدّعوة إلى النّفير فحسب بل كان في مقدّمة صفوف من نفروا إلى ساحة القتال، فحمل سلاحه وشارك في القتال إلى جانب شريحةٍ كبيرة من علماء ودعاة سوريا آنذاك كانوا في صفوف المدافعين عن فلسطين بأنفسهم وسلاحهم إلى جانب دعوتهم للجهاد بألسنتهم وعلى المنابر.

  • أسبوع التّسلّح ومواقف فذّة

أغارت الطّائرات الصّهيونيّة على مواقع سوريّة عديدة في كانون الأول "ديسمبر" من عام 1955م، شعرت القيادة السّوريّة بالحاجة إلى السّلاح، ولكنّ ميزانيّة الجيش لا تكفي لذلك، وبدأت المفاوضات على صفقة للسّلاح مع تشيكوسلوفاكيا وهذه الصّفقة تُقدّر بملايين اللّيرات مع عجزٍ عن دفعها.

في ذلك الوقت كان السوريّون يرون في الجيش السّوريّ قوّة لحمايته لا لقتله، ويثقون به ويعقدون الآمال عليه في حراسة سوريا من أطماع الصّهاينة، فبادر الشّيخ المفتي أبو اليسر عابدين إلى تأييد اقتراح أن يتمّ جمع التبرعات للجيش من المواطنين السّوريين، فأطلق الرّئيس شكري القوتلي ما عرف باسم "أسبوع التسلّح السّوري"، وكان للشّيخ الطبيب المفتي "أبو اليسر عابدين" قصب السّبق في الحشد لهذا الأسبوع وتحريض النّاس على التبرّع للجيش والجهاد بأموالهم، وقد كان له دور كبير في أنّ التبرعات فاقت المتوقع بكثير، كما كان لأحد المتبرّعين أثر كبير في تضاعف هذا التبرّعات؛ إذ تروي مجلة "الإثنين والدنيا" التي صدرت بتاريخ 19 كانون الأوّل "ديسمبر" 1955م في مقال بعنوان "شيك بمبلغ 100 ألف ليرة سورية يصبح أسطورة في الشام" جاء فيه:

“لقد قضى الرّئيس شكري القوتلي أكثر من شهر وهو ينظّم ويشرف على البرنامج الضّخم الذي وضع لحملة أسبوع التسلح في سوريا، وكان أكثر المتفائلين لا يتوقّع أن يصل حجم التبرعات لأكثر من خمسة ملايين ليرة سورية، لتكون حصيلة الحملة الوطنية التي يعبّر بها الشّعب السوري عن عاطفته نحو جيشه الباسل الذي يربض على الحدود، ثم حدث ما لم يكن بالحسبان، فقد تقدم شاب مهندس على وجهه طيبة وفي عينيه جرأة وشجاعة وإيمان؛ على فتح معركة ولكن معركة من نوع آخر.

هذا الشّاب المهندس هو أصغر شقيقين لوالد شيخ معمّم نجح شقيقه الأكبر محمد الميداني في شقّ طريقه إلى الصفوف المتقدّمة من التّجار وأصحاب المصانع في سوريا، أما الشّاب المهندس وهو موفّق الميداني فقد كان مهندسًا عبقريًا استطاع أن يقوم بأهم الأعمال الإنشائية في المملكة العربية السعودية، وعندما سمع المهندس المغترب عن أسبوع التّسلح في سوريا، الذي يشرف عليه الرّئيس شكري القوتلي، تحرّك في قلبه الحنين إلى الشّام وتجمعت معاني الوطنيّة في رأسه وتذكر الخطر الذي يحدق ببلاده ومسقط رأسه، فقرّر أن يتبرع بجزء من رأس ماله لصالح الجيش السوري الذي يسهر على حماية الحدود، فأرسل برقيّة إلى أخيه يخبره فيها أن يقدم إلى الرئيس شكري القوتلي شيكًا على البنك العربي بمئة ألف ليرة سورية "ما يعادل 20 ألف ليرة ذهبية" وأن يقدّم إلى الزّعيم شوكت شقير تكاليف تجهيز ثلاثين غرفة في المستشفى العسكري مجهزة بالأساس الفاخر الذي يليق بحماة الوطن.

وبالفعل ذهب الشّقيق الكبير محمد الميداني إلى الرئيس شكري القوتلي وقدم له المئة ألف ليرة سورية، وفعل ذات الشّيء مع رئيس الأركان العامّة شوكت شقير وقدّم له تكاليف تجهيز ثلاثين غرفة في المستشفى العسكري، قدّرت نفقاتها بثلاثين ألف ليرة سورية "ما يعادل 6000 ليرة ذهبية".

وقد انطلقت الصحف السورية في اليوم التّالي تتحدث عن هذا العطاء الجزيل من ابن دمشق البارّ المهندس موفق الميداني، وما قدمه في سبيل تسليح جيشه، فتحرك أصحاب الملايين وعددهم في دمشق لا يقل عن المئة شخص ليقوموا بمثل ما فعل الميداني، وبدأت الأندية والصّالونات تنشط وتتحفز وتهمس عن المبالغ الضخمة التي يفكر أصحاب الملايين في تقديمها لأسبوع التّسلح.

وقد انتقلت التوقعات لحجم التبرعات المفترضة من الحملة، من مبلغ خمسة ملايين ليرة سورية إلى مبلغ خمسين مليون ليرة سورية، ليكون الشّعب السوري الذي لا يتجاوز عدده الخمسة ملايين نسمة قد قدم تبرعًا إلى جيشه لم يستطع الشعب المصري الذي يبلغ اثنين وعشرين مليون نسمة تقديمه …" ا.ه

  • المواجهة مع جمال عبد النّاصر وحزب البعث

عندما قامت الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958م أعلن المفتي الطبيب أبو اليسر عابدين تأييده ودعمه لها، غير أنّ الأمر في الوحدة لم يستمر على الحال التي تطلّع إليها عموم السوريّين، وبعد أن أصدر جمال عبد النّاصر قانون تأميم الشركات في العشرين من تموز "يوليو" من عام 1961م طلبَ من المفتي الطّبيب أبو اليسر عابدين أن يصدر فتوى تؤيّد هذا القانون.

كان أبو اليسر عابدين يرى تأميم المصانع والمصارف تعديًا على حقوق العباد فرفض أن يصدر فتوى يؤيّد بها القانون، وتواصل معه مرّة أخرى المشير عبد الحكيم عامر يطالبه فيها بإصدار فتوى صريحة في تأييد القانون فأبلغه الشّيخ أبو اليسر رفضه القاطع لقرار التأميم وأنّه لن يصدر أيّة فتوى فيها ما يخالف الشرع الإسلاميّ فكانت النتيجة أن أصدر جمال عبد النّاصر قرارًا بعزل الشّيخ أبو اليسر عن منصب الإفتاء بعد ثلاثة أسابيع من صدور قانون التأميم، وذلك يوم السادس عشر من آب "أغسطس" 1961م.

وفي الثّامن والعشرين من أيلول "سبتمبر" 1961م وقع الانفصال وانتهت الوحدة، وسارع الشّيخ أبو اليسر عابدين إلى إلقاء كلمةٍ بارك فيها الانفصال، وممّا قاله فيها:

"لقد أصبحنا بحكم الله ورسوله في حِلّ من بيعتنا التي بايعنا عبد النّاصر عليها، لقد تظاهر بالوطنيّة فأفقر الغنيّ وأمات الفقير، وتكبّر وتجبّر على الشّعب وأفراد الأمّة؛ وقال: كنّا نريدها وحدة الأخ لأخيه لا وحدة السيد للعبد".

وفي يوم الانفصال صدر مرسوم بإعادته إلى منصب الإفتاء، وبقي مفتيًا إلى أن قام حزب البعث بانقلابه الذي استولى فيه على السّلطة يوم الثّامن من آذار "مارس" 1963م، فأعلن رفضه للانقلاب فما كان من قيادة البعث إلّا أن أصدرت قرارًا بعزله مجدّدًا عن منصب الإفتاء.

عاد الشّيخ أبو اليسر عابدين إلى مسجده "جامع الورد" خطيبًا ومدرّسًا إلى أن توفي يوم الثّاني من أيّار "مايو" 1981، بعد حياة زاخرة بالعلم الذي يصدّقه الموقف، والبذل والعطاء، والجهاد بالنفس وتقدّم الصفوف في مواجهة الاحتلال، ورفض الاستبداد والطغيان والانقلابات العسكريّة، وقد كلّفته مواقفه الكثير لكنّه بذل الثّمن غير آبهٍ راضيةً نفسه، فهو يمثّل نموذجًا للعالم الذي يتقدّم الصّفوف، ويسطّر المواقف في الميدان؛ ميدان الفعل كما في ميدان القول.