المفاوض الروسي

2018.07.23 | 01:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

قال ألكسندر زورين: «الكلمة العليا في سورية بيدي ويد اللواء علي مملوك. لا توجد سلطة أعلى منا في سورية إلا الله»، حتى لم يذكر بشار الأسد! كما يقول أحد مفاوضي جنوب دمشق مع الروس، في نيسان 2018.

في الشهر السابق كان اللواء الروسي قد أنهى مهمته في الغوطة الشرقية بنزق، كما يقول طبيب من مفاوضي المنطقة: كان يتصرف بعنجهية الجنرال المنتصر على أنقاض المناطق التي دمرها. قال إنه، كعسكري، يقدّر مقاتلينا والطريقة التي حاربوا بها، لكنه أبدى امتعاضه لما علم أننا وفد مدني. قال إنه يريد أن يفاوض الفعاليات العسكرية، وريثما يتم ذلك، خلال ساعات قليلة، حمّلنا الرسائل المطلوبة. بالنسبة لي كانت أشبه بإنذار غورو جديد؛ استسلام المنطقة وتسوية وضعها مع النظام، وخروج من لا يرغب في ذلك إلى الشمال بسلاحه الخفيف فقط. ليس هناك «مفاوض» روسي، لم تكن هناك مفاوضات أصلاً، بل إبلاغنا بما يجب فعله تحت التهديد المباشر باستئناف القصف بعد الهدنة القصيرة. لم يتورّع عن التلويح بتدمير المنطقة قائلاً: «ستسقط خسائر كبيرة بين المدنيين، وهذه مسؤوليتكم»!

هي الرسالة الفظة نفسها التي كان قد قالها، قبل عام كامل، العقيد الروسي رفائيل للجنة تفاوض حي الوعر بحمص، عندما حاولت شرح أوضاع السكان الصعبة تحت الحصار: «أعلم كل مشاكل الحي، ولكنكم لستم هنا لحل هذه المشاكل. دعوناكم إلى هنا كي تستمعوا لما نريد. لقد قلت ما أريده والباقي على مسؤوليتكم. بالنسبة لي إن لم يكن هناك نتائج اليوم، غداً سوف يعود القصف»، كما نقلت تسجيلات مسرّبة.

مسؤول التفاوض عن مجلس قيادة حلب، إن العماد رفض عرضاً كانت الفصائل قد تقدّمت به للمجتمع الدولي لإخراج المدنيين إلى الريف الغربي واستمرار العسكريين في القتال

كان أول حضور بارز للمفاوض الروسي في الشهر الأخير من عام 2016، في حلب، مع الضابط الذي سيتبين أنه العماد فلاديمير سافتشنكو عند توقيع اتفاق الإجلاء. كان الثوار، المحاصرون الآن مع عشرات آلاف المدنيين في أحياء قليلة مكتظة بعد سقوط مناطق واسعة من المدينة في الحملة العسكرية، قد وافقوا على عرض قديم بالتفاوض مع الروس مباشرة، وهو ما تم عبر الهاتف. يروي الفاروق أبو بكر، مسؤول التفاوض عن مجلس قيادة حلب، أن العماد رفض عرضاً كانت الفصائل قد تقدّمت به للمجتمع الدولي لإخراج المدنيين إلى الريف الغربي واستمرار العسكريين في القتال، وعرض خروج الجميع إلى مناطق النظام وتسوية أوضاعهم بضمانة روسية. تعثرت المفاوضات حتى تدخل وسيط محلي فنزل السقف الروسي إلى خروج المقاتلين دون أسلحتهم، ثم إلى خروجهم بسلاحهم الخفيف. يقول المفاوض إن العماد كان يستعجل الاتفاق لأن طرفاً ثالثاً يسعى إلى إفشاله. عند مغادرة القافلة الثانية اتضح أن هذا الطرف هو إيران التي حاصرت ميليشيات تابعة لها الباصات ومنعت مرورها، واعتقلت بعض المقاتلين وقتلت عدداً آخر. بدت روسيا، هنا، كقوة مهيمنة ولكنها غير فاعلة على الأرض. مما أدخل إلى المشهد خط تفاوض إيراني موازٍ هدف إلى تحقيق مكاسب في ملف كفريا والفوعة.

قال اللواء أندريه، عضو الوفد الروسي إلى جانب زورين، لمفاوضي ثوار جنوب دمشق: «نحن نرغب بإدخال قوات سهيل النمر، هي قوات مضبوطة بقراراتنا كروسيا الاتحادية»

وبدا العماد عاجزاً عن السيطرة، لا سيما بعد أن خرقت الميلشيات الشيعية وقوات النظام وقف إطلاق النار الذي أبرمه الروس مع الفصائل الحلبية. بعكس ما سيحصل في جنوب دمشق المجاور لمناطق السيطرة الإيرانية المركزية، عندما سيقول المفاوضون الروس بحزم: «لن تتدخل إيران في ملف المنطقة بالمطلق. وإذا قامت أي ميليشيا في السيدة زينب بمحاولة التقدم إلى جنوب دمشق سنقصف السيدة زينب كما نقصف داعش في المخيم والحجر الأسود». وعن التفضيلات الروسية قال اللواء أندريه، عضو الوفد الروسي إلى جانب زورين، لمفاوضي ثوار جنوب دمشق: «نحن نرغب بإدخال قوات سهيل النمر، هي قوات مضبوطة بقراراتنا كروسيا الاتحادية»، ولكن النظام يريد إدخال قوات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والتي وصفها اللواء بأنها «همجية»، مبيّناً أنهم لا يستطيعون التدخل في بعض الأمور بسبب موقف روسيا الحليف لما يسميه المفاوضون الروس في العادة «الحكومة السورية».

ومن أبرز المعالم التي يمكن استنتاجها سلوك الضباط الروس كمندوبي قوة «وصاية» أو «انتداب»، لا «احتلال» بالمعنى المألوف

يفيد هذا الرصد، الجزئي بالطبع، في رسم صورة عن آليات اشتغال التدخل الروسي في سورية. ومن أبرز المعالم التي يمكن استنتاجها سلوك الضباط الروس كمندوبي قوة «وصاية» أو «انتداب»، لا «احتلال» بالمعنى المألوف. تبدو هذه الوصاية مستعلية بشكل واضح على الثوار السوريين بالدرجة الأولى، الذين لا يُتاح لهم، أثناء «التفاوض»، سوى مناقشة آليات الخروج وعدد الباصات ومواعيدها، أو تحديد أماكن «تسوية الوضع» للراغبين في البقاء، بضمانة عامة من الشرطة العسكرية الروسية قليلة العدد وهي الذراع التنفيذي الروسي المباشر والوحيد. ولا تخفى كذلك معالم الاستعلاء على قوات النظام وممثليه، الذين يفضّلون على الدوام إجراء «المصالحات» معهم مباشرة، وحينها سيكونون مطلقي اليد في المنطقة، اعتقالاً وتجنيداً وتعفيشاً، وسيستولون على سلاحها الثقيل الذي هو محل اهتمام المفاوضين الروس الذين يؤكدون دوماً أن أي تلاعب في تسليمه، أو محاولة تدميره، تلغي الاتفاق أوتوماتيكياً. بينما تبدو قدرة الروس على لجم القوات الإيرانية، وهي القوات الأكبر على الأرض السورية الآن، محدودة ومفعمة بالشك المتبادل.

من جهة أخرى لا تبرز أدلة على رغبة روسية في تهجير السكان، بل ربما بدت معالم تفضيل بقائهم في مدنهم وبلداتهم، بعد «تسوية أوضاعهم» بالطبع. وهنا يقدّم الروس ضمانات بعدم الملاحقة والاعتقال لمدة تتراوح بين ستة أشهر وسنة، غير أنهم لا يستطيعون عملياً ضبط أجهزة النظام التي تتخطف الناس الذين لا يستطيعون الوصول الآن إلى «الجنرال الروسي» وتسجيل أسماء مفقوديهم في دفتر مترجمه، والذي يبدو أشبه بالكشكول.

تغيب السياسة، كذلك، عن «المفاوضين» الروس. لا من جهة أنهم ضباط يريدون إنجاز مهامهم الحربية بسرعة ووحشية فقط؛ بل أيضاً من زاوية أنهم يتعاملون مع الحقائق على الأرض. ولذلك تتراجع في كلماتهم الدعاوى السياسية الروسية الكبرى التي تخلط داعش وجبهة النصرة والجيش الحر في سلة مخادعة واحدة. في الرحيبة بريف دمشق قال اللواء يوري للأهالي: «نحن نعرف أنكم لستم مجرمين ولا إرهابيين. أنتم نجحتم في حماية بيوتكم. صدقني، إن روسيا الاتحادية تبذل مجهودات جبارة لتغيير نظرة الحكومة لكم»، مما يحيل إلى أفق سياسي ما في جعبة موسكو في نهاية المطاف، أو أنها تظن ذلك على الأقل!

في الشهر الماضي بدأت معركة الجنوب السوري. وكعادته توجه ألكسندر زورين إلى هناك لينثر التهديدات التي ستنفذها طائراته بسرعة، والضمانات التي ستعجز شرطته العسكرية عن تنفيذها. أما الميليشيات الشيعية فقد عادت إلى تحدي «الهيبة الروسية» باحتجاز قافلة مهجرين قرب حمص لساعات، بحثاً عن حصة من الكعكة.