منذ أواخر العام 2019 وبعيد خسارة حزب العدالة والتنمية انتخابات بلديتي إسطنبول وأنقرة لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض، وبالتزامن مع تصاعد خطاب الكراهية والسلوك العنصري الفاقع ضد اللاجئين السوريين في تركيا والذي وصل في الكثير من الحالات لارتكاب جرائم اعتداء جسدي وقتل متعمد للعديد من هؤلاء اللاجئين، انطلقت أولى حملات الترحيل الجماعي والقسري للسوريين في إسطنبول، وسرعان ما امتدت لولايات أخرى لكل من ارتكب مخالفة تتعلق بوجوده خارج ولايته التي يفترض أن يكون مقيما بها أو لكل من يضبط وهو يعمل بدون إذن عمل أو لكل من كان ضالعا في مشاجرة أو صدر عنه سلوك فسّره الآخرون على أنه يخالف النظام العام أو يهدد السلم المجتمعي، أو حتى لكل من أوقعه حظه العاثر بيد دورية للبوليس ولم يكن يحمل بطاقة الحماية الخاصة به حتى لو كانت صادرة ومطابقة للمدينة التي تم ضبطه بها، لكن مجرد السهو عن حملها كان كافيا لإلقائه خارج الحدود!.
وكما صار معروفا للجميع فإنه يتم (شحن) تلك الجموع البشرية ووضعها في مراكز تجميع تمهيدا لفرزها ونقلها إلى مراكز الترحيل القريبة من المنافذ الحدودية التي سيتم ترحيلهم منها إلى مناطق الشمال السوري.
مصطلح (العودة الطوعية) لم يسمعه السوريون إلا بعيد أولى الحملات الكبرى للترحيل أواخر عام 2019
وليس خافيا على أحد ما يصاحب هذه الرحلة من سوء معاملة وإهانات وحرمان من حق الاتصال بالأهل أو المحامي لإبلاغهم عن مكان وجود الشخص وسبب توقيفه وهذا أبسط حقوقه، بعد ذلك تبدأ مرحلة انتزاع التوقيع من هؤلاء الموقوفين على ورقة العودة الطوعية سواء بالضرب أو الزجر والعنف اللفظي أو بالتهديد والابتزاز بأن من يرفض التوقيع سيبقى قيد التوقيف الإداري لستة أشهر.
مصطلح (العودة الطوعية) لم يسمعه السوريون إلا بعيد أولى الحملات الكبرى للترحيل أواخر عام 2019 ثم بدأ تداوله رسميا مع تصريح حكومة العدالة والتنمية بمشروعها لإعادة مليون سوري من تركيا قبل انتخابات 2023 بشكل (طوعي) إلى مناطق الشمال السوري، حيث تنتظرهم (الجنة الموعودة) ومساكن جاهزة ومختلف الخدمات الطبية والتعليمية وغيرها (!) وكأن الحكومة تعلم مسبقا وقامت بإحصاءات دقيقة ليتبين لها أن مليونا من السوريين يرغبون فعلا ويلهثون وراء العودة لمناطق شمال سوريا (الآمنة) وقبل الاستحقاق الانتخابي التركي (!).
ومنذ ذلك الحين ما تزال تستمر عمليات الترحيل وتتواصل قوافلها، ومنذ ذلك الحين كل عمليات الترحيل تتم تحت عنوان (عودة طوعية) فهل تلك العودة مستوفية لشروطها القانونية التي تجعل منها فعلا عودة طوعية؟
لا يمكن اعتبار أي عودة لأي شخص تحت الحماية إلى بلده عودة طوعية مالم يعبّر هذا الشخص بكامل إرادته الحرة بلا أي ضغط أو إكراه سواء أكان إكراها ماديا أو معنويا عن قراره ورغبته بالعودة لبلده وتنازله عن حقه بالحماية، فضلا عن أن يكون بكامل وعيه ورشده وعلى بينة من حقيقة الأوضاع في المنطقة التي سيعود إليها وأن يذهب بملء إرادته إلى مديرية الهجرة في الولاية التي يقيم فيها ويتقدم بطلب خطي مذيل بتوقيعه يعبّر فيه عن رغبته بإنهاء حالة الحماية عنه وقراره بالعودة لبلده، ومن ثم يتم تنظيم محضر بذلك بحضور مترجم ليتم تضمين تلك الرغبة وهذا القرار في متن المحضر الرسمي ومن ثم يوقع على ورقة العودة الطوعية دون أي ضغط أو إكراه وهو على بينة من مضمونها ومحتواها الذي يجب أن يكون مترجما للغته، وأن يوقع على المحضر والوثيقة هو والمترجم معا، عندها تقوم دائرة الهجرة بإنهاء وضع الحماية وترقين قيوده من جداولها وإيقاف بطاقة الحماية التي يحملها، ثم يزود بوثيقة تخوله السفر إلى الحدود ومغادرة البلاد.
أما أن يتم اعتقال الأشخاص عشوائيا لمجرد وجودهم في ولاية غير ولاية إقامتهم المفترضة أو بسبب انتقالهم دون إذن سفر أو إيقاف قيودهم لمجرد وجود نقص أو خطأ في بعض المعلومات الشخصية، أو عدم تحديثها أو بسبب شكوى قد تكون كيدية ومن ثم نقلهم مكبلين لمراكز تجميع وإساءة معاملتهم وحرمانهم من حق الاتصال والتواصل، ومن ثم إكراههم بالقسر والترهيب على التوقيع على وثيقة معنونة بوثيقة "عودة طوعية" فإن ذلك بلا أدنى شك يخالف كل المنظومة القانونية المتعلقة بحقوق اللاجئين وطالبي الحماية التي ألزمت الدولة نفسها بها وصارت جزءا من التزاماتها القانونية، ما ينفي بالمطلق أن تكون ثمة عودة طوعية وإنما هو ترحيل قسري بكل ما للكلمة من معنى.. وبالتالي فإن كل السوريين المرحلين خارج الأراضي التركية تمت عملية ترحيلهم قسرا، والقليل منهم رُحلوا وفقا لمقتضيات قانون الحماية وهو ما ينسجم مع الموجبات القانونية، وأكثرهم مرحلون خارج نطاق القانون.
التقارير الحقوقية التي صدرت عن عدة منظمات حقوقية تركية ودولية ومقاطعة المعلومات مع بعضها بعضا، ومع ما يدلي به المرحلون أنفسهم كلها تؤكد خلاف ما تزعمه رئاسة الهجرة
وبالتالي ليس من المجدي الزعم بأن هؤلاء يغادرون إلى بلدهم بقرار حر منهم وبشكل طوعي، كما ليس من المجدي الاستمرار في حالة الإنكار التي تعيشها رئاسة الهجرة فيما يتعلق بهذا الشأن لأن التقارير الحقوقية التي صدرت عن عدة منظمات حقوقية تركية ودولية ومقاطعة المعلومات مع بعضها بعضا، ومع ما يدلي به المرحلون أنفسهم كلها تؤكد خلاف ما تزعمه رئاسة الهجرة، والمؤسف والصادم أن كل ذلك يحصل أمام سمع وبصر مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة المنوط بها حماية حقوق اللاجئين (!) والتي تقول في تقاريرها إنها أنفقت خلال السنوات الثلاث الأخيرة أقل بقليل من عشرة مليارات دولار لتحسين واقع اللاجئين السوريين، في حين شهدت نفس السنوات تراجعا مريعا في أوضاعهم على مختلف المستويات.
هل من المجدي أن نجدد الدعوة والمناشدات للحكومة التركية بأن توقف هذه المهزلة وأن تراعي التزاماتها القانونية المتعلقة باللاجئين، والتي نصت عليها مختلف المواثيق الدولية المتعلقة بهذا الشأن والتي التزمت السلطات التركية بها طوعا وصارت جزءا من تراثها القانوني؟.. أشك في ذلك لكن لا بأس من تلك المناشدات التي لا نملك من أدوات ضغط سواها.