المسلسل السوري الطويل "في مناسبة تأبين المبدع الراحل حاتم علي"

2020.12.30 | 23:41 دمشق

hatm-ly-snak-swry.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين نتحدث عن دراما سورية، يذهب تصَوّرُنا تلقائياً إلى المسلسل السوري، أكثر مما نتوقف عند المسرح أو السينما. وهذا مفهوم وطبيعي بحسبان المسلسل السوري قد دخل كل بيت تقريباً، منذ دخل جهاز التلفزيون إلى سوريا. لقد دخل المسلسل جميع بيوت السوريين، فشاركهم حياتهم ومُخَيِّلاتِهم، حتى أصبح ركناً ركيناً في كل بيت، كأنه أحد أفراده، وتقاسم مع السوريين اللحظة الحاضرة والسردية التاريخية البائدة.

وصحيح أيضاً أن ظروف الدراما السورية ـ المسلسل التلفزيوني ـ قد ارتبطت بتطور واقع سوريا الحديث منذ خمسين عاماً، إلى درجة يصح معها القول، إن المسلسل السوري قد شكَّل "واقعاً تعويضياً بديلاً" عن الواقع المعاش، بالمعنى السايكولوجي النفسي، أو تشارك معه قسمة اللحظة المُتَخَيّلة، وبدرجة كبيرة نسبياً، فقد بات نافذة الثقافة اليومية المتاحة دون كلفة أو عناء، وشبه الوحيدة، المتاحة لأوسع شرائح الجمهور العريض.

ومنذ البدايات، ارتبطت الدراما السورية مكانياً بالابتعاد عن الأسئلة: كيف حدث هذا؟ ما مسوغ حدوث هذا؟ لماذا حدث هذا؟ والالتفاف حول السؤال المركزي: كيف سينتهي كل هذا؟ مثلما ارتبطت موضوعياً بزمنين يمثَّلان تمثيلاً درامياً، عبر إسقاطهما على الفعل الماضي والمضارع من حياتنا المعاشة. الماضي كانت أجلى تعبيراته في أن هذا التاريخ هو "تاريخنا نحن". أو هو "ماضينا نحن".

فهو بمعنى من المعاني، يعيد تشكيل قالب الـ "نحن"، بحيث يعمل على تسوية مُرْضية معها. سواءٌ كان ذلك الماضي ماضياً قريباً، يروي لنا سرديات عن مقاومة الانتداب الفرنسي على سوريا، أو بعيداً ضارباً في عمق التاريخ، قبل الميلاد وقبل ظهور الإسلام، يروي لنا عن الزبّاء وملكات سوريا، أو عن الزير سالم. أم هو ماضٍ قريب لا يبعد عنا أكثر من بضعة عقود خلت، أو حاضر عتيد يجهر في فضح الفساد والتسلط والقهر الاجتماعي، بتوصيفها بأوصاف استثنائية ونادرة، يسهل تقديمها في قالب كوميدي وطابع ساخر يثير شهوة التفتيش عن نوادر وحكايا خلقتها الصدفة المجتمعية. وأجلى تعبيراته عن الحاضر المضارع هو أن "هذا الوطن وطننا"؛ أي "هو نحن" أيضاً. مع أن "ماضينا ووطننا" بقيا شيئاً غامضاً غير مفسر ـ درامياً على الأقل ـ حتى اليوم، كما ظل الغموض يكتنفهما، ويزداد إبهاماً، إذ كلما اشتدت الأزمات المتلاحقة حول المواطن، وانضغط عنقه بحبال ملتفة كثيرة لا يعدُّها الحصر، تقدم المسلسل السوري بأطروحة متضمَّنة في ثنايا المشهد المستعرض؛ أطروحة تجتهد في أن وطننا، بكل غموض المفردة وشبحيتها، يبقى "فوق كل شيء"، يعلو ولا يعلى عليه، ويهون من أجله كل شيء. فالحياة بكل ما فيها، هي تفصيل تافه وعارض، والجوهري فقط هو "وطننا"، الذي هو أجلى صورة من كل ما يشوش معناه أو يفسد بريقه ودافعية الإخلاص له، والتنازل والرضوخ من أجله ولسواد عيونه.

التطور الأهم في صعود الدراما المسلسلة أو انكسارها، هو توسع دائرة نجوم الدراما ومخرجي الأعمال الدرامية وكتاب نصوصها

ومنذ عام 2011، تاريخ قيام الثورة السورية، حدث تحول كبير في طريقة التعاطي مع مفهومي "تاريخنا ووطننا". خمد التعاطي القديم إلى درجة الموت السريري تقريباً، بدا معه وكأن المسلسل الذي كان مركباً على عاملِين: ممثلين وقصة مشوقة ومخرج ومنتج، يتعاطى معهم جمهور محايد، جمهور متفرج بالمعنى الحرْفي لا المجازي. متلقٍ ومراقب بتشوق لحدث لا يعنيه على المستوى الشخصي. حدث يقدم له الحكمة؛ إما بطريقة كوميدية، أو تراجيدية على شكل صورة تلهب الأعين والأخيلة المتوهِّمة للبيئة الشامية أو الحلبية أو البدوية. ولاحقاً بعض بيئات المدن الأصغر، كالساحل السوري.

انكسرت العلاقة بين الجمهور والمسلسل الدرامي بعد انفجار الثورة، إنْ لم أتطرف بالقول إنها انعكست رأساً على عقب. أصبح المسلسل محايداً سلبياً أو شبه سلبي، ومتعلماً يتفرج على الجمهور المشارك في الحدث، أو يجري وراءه لاهثاً ليتعلم منه، أو يستقي بعض المعلومات عنه. بعد أن كان واقع ما يحدث قبل الثورة يوحي بالعكس؛ فقد كان المسلسل أستاذاً ومعلماً. كما احتفظ كلا الطرفين بفهمه الخاص عن "ماضينا ووطننا"؛ فهماً مختلفاً عن الآخر، إن لم أقل حدث انشقاق تاريخي تطوري في المفهومين، أوصل إلى ابتعادهما عن بعض، حتى بعدت الشُّقة والمسافة بينهما.

التطور الأهم في صعود الدراما المسلسلة أو انكسارها، هو توسع دائرة نجوم الدراما ومخرجي الأعمال الدرامية وكتاب نصوصها، في العشريات السابقة للثورة. فبعد أن كان الجمهور لا يحتفظ في ذاكرته إلا ببضعة عشرات من أخبار نجوم ونجمات الصف الأول والثاني، انفجرت الدراما السورية عبر طريقة عرض مختلفة، وبأدوات مختلفة ونجوم ومخرجين جدد، مختلفين بالكلية عن نجوم الماضي. حتى البيئة السورية، ومسارح تصوير المسلسلات، بدت وكأنها كشوفات جديدة لم تكن معروفة ولا مألوفة من قبل. فقد اكتشف الجمهور السوري أن سوريا ليست هي فقط دمشق الحارات أو حلب الأحياء. ولا هي فقط قرية "أم الطنافس الفوقا"، التي قُدِّمت بوصفها اختزالاً لبيئة ريفية ساحلية معزولة، أصبحت ذكراها تثير التندر والتبسم لدى كل السوريين. ولا كذلك هي مسلسلات بدوية، قوامها الأساسي يقوم على خيام وصحراء وأغنام وشيخ وابنة شيخ حسناء، تجمع صفات الكمال المتوقعة منها، فهي عالمة أو فيلسوفة حكيمة أو شاعرة.

اضطر الجمهور أن يفتح عينيه أكثر، وأن يتعرف على مواضع من "وطننا" ما سمع بها من قبل ولا تعرفها إلا في أضيق الحدود؛ ولأكثر من خمسين عاماً. فقد عرف الغوطتين ومخيمات الفلسطينيين ورأس العين. ولأول مرة سمع بحريتان والدرباسية وعامودا وعفرين والشحيل والباغوز. كما راح يسمع كثيراً بتلبيسة والرستن، وقرى جبل الزاوية وخان شيخون وسراقب، وبالقصير وتل أبيض والصنمين وخربة غزالة وبصرى وحلفايا وعقيربات. كما رأى بأم العين، ولأول مرة، الجانب المستتر وغير المألوف والمعروف لديه من نجومية مي اسكاف ويارا صبري وعبد الحكيم قطيفان وجهاد عبدو وحاتم علي وسميح شقير، والجانب المستتر والمجهول المخفي بالكلية، من نجومية دريد لحام وبشار إسماعيل وسلاف فواخرجي وأيمن رضا وباسم ياخور.

جرى تحول كبير في شكل ومضمون النجومية بمحتواها القديم، الذي بات يتسلخ ويهترئ، وراح الجمهور العام يضيف إلى نجوم الماضي الذين لم يكن يعرف غيرهم، أو يتوقعه، نجوماً جدداً بات يتمثل رمزيتهم لأول مرة؛ مثل حسين هرموش وغياث مطر وباسل شحادة وعبد الباسط الساروت وفدوى سليمان. وعشرات بل مئات غيرهم، لم يكن يتوقع أو يحسب أنهم سيصبحون لاعبين نجوماً، (ولا توقعوا هم ذلك بالطبع). فصار للفاعلين في تغيير مفهومية ماضينا التاريخي ووطننا، دوراً أو أدواراً لنجوم من خارج التمثيل المسرحي.

كما أن ذلك الجمهور الكبير، ولأول مرة، يكتشف بأن اللغة الواحدة والوحيدة التي تصاغ بها حوارية المسلسل ليست واحدة ولا وحيدة. فليست سوريا هي تلك اللهجة اليتيمة التي تَعَرَّفها في المسلسلات الشامية، ولا تلك اللهجة البدوية المتخالطة التركيب هي وحدها البدوية أو الريفية. فهناك هامش من اللهجات واللغويات المحلية، كونت طيفاً يشبه البانوراما المتحفية التي كان يختزلها المسلسل بطبعاته القديمة ويوحدها، حيث ثمة هامش قاموسي لغوي، يبدأ من لا نهائية الحكمة والمنطق، وصولاً إلى لهجات جديدة لمّا يتعرفْ على أبجدياتها بعدُ، وصولاً إلى لا نهائية القذف والشتائم اللفظية والكلام البذيء الخادش للحياء العام، والذي كانت الرقابة، ومقصات رقبائها تحرص على تنقيته وتقطيره وتبخيره قبل أن يصبح مناسباً لعرضه على التلفزيون، والتهيئة لدخوله إلى كل بيت.