icon
التغطية الحية

المسرح عبر التاريخ.. من طقوس دينية إلى عروض فنية

2021.12.05 | 06:01 دمشق

fn_rwmany.jpg
لوحة لمسرح روماني (إنترنت)
محمد أوزملّي
+A
حجم الخط
-A

يقول الكاتب والسياسي المصري إدوار الخراط واصفاً المسرح بأنه "ليس طريقا فردياً للخلاص، وصيغتهُ الجماعية أبرز مميزاته، فهو باحة للتلاقي وميدان للمشاركة، وعملية جمعية للتآلف، وتحطيم للانفصالية والوحدة".

إذا ما تمعنّا التفكير والبحث في جملة الخرّاط الأخيرة -تحطيم للانفصالية والوحدة- لا يسعنا إلا أن نقول بأن المسرح قد انبثق تحديداً من مفهوم هذه الجملة. ولنستعرض الآن مسيرة المسرح وتطوره، منذ بداية نشأته حتى يومنا هذا.

نشأة المسرح قديما

نشأ المسرح كحالة تعبيرية قبل نحو 10 آلاف سنة قبل الميلاد، حيث بدأ الإنسان حينئذ بمحاكاة قوى الطبيعة التي طالما احتاج إليها في فترات الجفاف وقلة الخيرات والعواصف والكوارث، والتي كان يفسرها دائماً بغضب قوى الطبيعة، ولكنه جهِل تماماً من تكون هذه القوى، ومن هو وراءها، فقط كان متأكداً بأنه يستطيع التواصل معها والتوسل والاسترضاء إليها لتلبية حاجياته وحمايته؛ لذا بدأت معه أول ابتكارات فن المخاطبة الإيمائية (البانتومايم) إذ أصبح الرقص طقســاً دينياً استخدمه للتعبير عن الانفعالات والأحاسيس التي كان يُكمن داخلها فرحه وأحزانه.

 

فن قديم.jpg
من فنون الإنسان القديم

 

 ابتكر الإنسان في ذلك الوقت فن المخاطبة الإيمائية التي كانت فرضاً أساسياً مع الأضاحي، مضيفاً إليها بعض الترانيم والطقوس مثل: الدوران حول النار أو الوقوف على مكان عال عند تقديم الأضاحي البشرية من "فتيات وأطفال". فكان الإنسان القديم مدركاً ومؤمناً بأن طريقة التواصل مع قوى الطبيعة أو مع من يتحكّم بكل تفاصيل الحياة اليومية، يجب أن تكون مختلفة عن طريقة التواصل مع البشر، فهذا التواصل المقدس لا بدَّ أن يرافقه أدوات وكلمات وتعابير حركية خاصة جداً لهذه القوى. ومن هنا بدأ يبني أول المشاهد الدرامية التي كانت قائمة على سيناريوهات في الأذهان يتوارثها الأبناء.

فجر السلالات المصرية والبابلية

بقي العرض المسرحي البدائي الخاص بمحاكاة قوى الطبيعة يعرض لفترة طويلة في الفلوات (أراضٍ واسعة على أطراف المدن)، وعلى التلال وصولاً إلى فجر السلالات المصرية أي نحو 3 آلاف سنة ق.م، إذ وثّقت التنقيبات الأثرية وبعض النصوص والرسوم على جدران مقابر ومعابد قدماء المصريين، ممارسة الفراعنة لفنون تقليد الشخصيات بجانب تمثيلهم للأساطير والملاحم الدينية، مثل أسطورة انتصار "حورس" على غريمه الإله "ست" آخذاً بثأر والده أوزيريس بحسب وقائع الملحمة الشهيرة "إيزيس وأوزيريس" حيث تصوّر وصول حورس للبحيرة التي تمكن فيها من قتل "ست" الذي كان في صورة فرس النهر وربط "حورس" لـ "ست" بسلاسل حديدية، وهو ما يسمى بمشهد الانتصار.

 

نقش مصري.jpg
نقش مصري قديم

 

ولم يقتصر هذا النوع من العروض المسرحية عند المصريين فقط، وإنما تؤكد التنقيبات الأثرية بأن البابليين أيضاً ومن قبلهم السومريون، كانوا يمجدون آلهتهم بعروض ومشاهد مسرحية تقام في الأعياد، وهذا ما دلت عليه الأسطورة السومرية الشهيرة المكتشفة في العراق "نزول إنانا إلى العالم السفلي" التي عُدّت من أوائل النصوص المسرحية المكتشفة حتى الآن في العالم، ولم تكن للقراءة فقط وإنما للتمثيل أيضاً، حيث كانت تُعرض في احتفالات عيد "الأكيتو" خلال فترة الاعتدال الخريفي.

 

فنون بابلية.jpg
من الفنون البابلية

 

وكانت تقام هذه العروض في فناء المعبد، ما يؤكد أن المصريين والبابليين هم أول من نقل العرض المسرحي من الفلوات الخارجية إلى أفنية المعابد، وهو ما يوضح لنا في هذه الفترة أن العروض أصبحت أكثر جرأة مما كانت عليه في السابق. إذ بدأت مع المصريين القدماء أدوار عروضية تجسد الآلهة بحسب الاكتشافات الأثرية التي أثبتت وجود رسوم على جداريات تعود لأشخاص يرتدون أقنعة (ماسكات) تمثل شخصيات الآلهة، وثبت أنهم كانوا يضعونها على وجوههم خلال تأدية الأدوار.

هذه العروض المسرحية كانت تقام عند المصريين والبابليين في المناسبات والأعياد الدينية فقط، أي أنَّهُ مع تطور أسلوب السيناريو والعرض بقي الهدف الأساسي منه هو "محاكاة قوى الآلهة" التي كانوا يعبدونها، واستعانوا بهذا الفن الإيمائي في طقوس تقديم القرابين للآلهة. ورغم تطور أسلوب العرض للمشاهد في هذه الفترة فإنَّ فئة صغيرة من المصريين والبابليين يمثّلها السحرة والمشعوذون، ظلّت تنتمي إلى نفس العروض القديمة (البانتومايم) التي كان يؤديها الإنسان البدائي.

المسرح اليوناني والروماني

مواضيع محاكاة الآلهة التي كان يُبنى عليها المشهد الدرامي عند المصريين، بقيت ذاتها عند اليونانيين في الفترة الأولى أي نحو القرن السادس قبل الميلاد، فقد كان اليونانيون في تلك الفترة، رغم تطور شكل المسرح ومكانه، يعرضون فقط مسرحيات خاصة بالأعياد الدينية متجسدة في موضوعين رئيسين وهما:

  • التراجيديا: مثل عروض الإلياذة والأوديسا التي كتبها الشاعر "هوميروس" وكانت تمثل الصراع الاجتماعي الذي ينشب بين فئات مختلفة لمجتمع واحد.
  • الكوميديا: وهي عروض "الديثرامب أو الديثراميوس" التي كان يُمجّد فيها إله الخمر والنشوة "ديونيزوس" بالأناشيد والرقصات.

 

فن روماني.jpg
مسرح روماني

دخول الفكر الفلسفي على المسرح اليوناني والروماني

أمَّا في الفترة التي تلتها فبدأت العروض المسرحية اليونانية لأول مرة تُدخِل شخصيات بشرية (الأبطال) وتمجّد بطولاتهم، وهذا ما عززهٌ المسرح الروماني أيضاً في الحقبة التي تلاها. ومن المتغيرات التي طرأت على السيناريو في هذه الحقبة هي ظهور نوع جديد من الصراعات في العروض ألا وهو صراع الآلهة (الخير والشر)، ومن هنا نستطيع أن نخمِّن نشأة أول حركات التمرد على الأسلوب المسرحي القديم المختص بـ "محاكاة قوى الآلهة" بأسلوب جديد كان روادهُ فلاسفة الإغريق.

المسرح في العصور الوسطى

بقيت العروض المسرحية تعالج المواضيع الحياتية نفسها كما بدأت اللغة العامية تسيطر على السيناريوهات بهدف الاقتراب من لغة الجمهور، ولكن ما لبثت أن عادت إليها الصبغة الدينية في بعض المناطق التي تسيطر عليها الكنيسة في العصور الوسطى (1100م)، إذ بدأت الكنائس في أوائل تلك العصور بتنظيم نُسخ درامية لأحداث توراتية معينة في أيام محددة من السنة، وكان يتم تضمين المسرحيات من أجل إحياء الاحتفالات السنوية. وكانت الأفعال الرمزية تكمن في الملابس والمذابح والمباخر والبانتومايم التي يؤديها الكهنة.

 

فنون عصور وسطى
مسرح العصور الوسطى

 

 تلك الفترة كانت قصيرة على مسيرة المسرح، إذ ما لبث أن عاد العرض المسرحي مرة أخرى ليقدم عروضاً هزلية مبتعداً مرة أخرى عن الدين، وبقي مقيداً ضمن فلسفة العصور القديمة في طرح مواضيعه،  كما أنَّها لم تقتصر فقط على المواضيع الهزلية، وإنَّما شهدت هذه الفترة ولادة نمطٍ  فني جديد في عرض المواضيع وهي(الأوبرا)، التي اشتهرت بها إيطاليا قبل أن تنتقل إلى محيطها الأوروبي.

المسرح المعاصر

لم يعرف المسرح تحررهُ من الدين والفلسفة إلا في القرن التاسع عشر، حيث شهدت هذه الفترة ثورة انسلاخ المسرح عن الفلسفة الأرسطية والمحاكاة الكلاسيكية، لا سيما أنَّه كان قد ابتعد عن الدين في فترة سابقة.

فمع هذه الثورة أصبح للمشهد الدرامي المسرحي مذاهب وتيارات حديثة مثل: الرومنسية، الرمزية، السريالية، الوجودية، الأوتشرك (المسرح الروسي)، والتي كانت جميعها تحاكي الواقع الاجتماعي بطرق مختلفة بحسب آراء وطرائق مفكريها في طرح المشكلة، ومعالجتها ضمن لوحة فنية متكاملة في أدواتها.

كما انبثقت عن هذه التيارات طرائق حديثة في عرض المشهد الدرامي، مثل: مسرح المضطهدين، والمسرح التفاعلي، والمونودراما والديودراما.. إلخ؛ لتقوم هذه الطرائق بوضع أول حجر أساس يخدش خشبة المسرح بهدف كسرها، وبناء علاقة جديدة بين المسرح والجمهور على خشبة واحدة؛ لعرض لوحة فنية يكون فيها الجمهور جزءًا من المسرحية.

ففي وقتنا الحالي ومع كل هذا التطور الذي نشهده، ما تزال العروض المسرحية تخوض صراع تنوعّ المشاهد الدرامية بين تيارات تقدِّس الخشبة والعروض الرمزية والكلاسيكية، وتيارات أخرى تعمل على نقل الخشبة/ هدمها، للانتقال بالمشهد إلى وسط الجمهور وإشراكهم فيه، وهذا التنوع والصراع بين الآراء ليس بجديد على مسيرة المسرح.

 

من عرض (موت دانتون) ، تجمع مقلوبة المسرحي السوري (5).jpg
من عرض مسرحية (موت دانتون)

 

ورغم التطورات، بقي الهدف الأساسي للمسرح يكمن في التعبير عن الأحاسيس والأفكار البشرية المختلفة باستخدام فنّي للكلام والحركة. أما الاختلاف بين الأسلوب القديم والحديث فقد تغير مع الزمن، فما عرفناه عن فنّي الحركة والكلام في العصور القديمة كان في أغلب العروض المسرحية محصوراً في الغناء والحركات المبالغ فيها، ولكنهُ ما لبث أن تغير في عروض المسرح المعاصر وأصبح أقرب إلى الواقع، لاغياً الحركات الإيمائية المبالغ فيها، معتمداً بأسلوبه على الإحساس في عرض المشاهد الواقعية المأخوذة من الحياة اليومية، كما أنَّهُ اعتمد وواكب التكنولوجيا بهدف وصولها إلى جمهور ومشاهدات أكثر، حيث أصبحت العروض المسرحية تعرض على التلفاز لنرى مرحلة جديدة لمسيرة المسرح ألا وهي "سينما المسرح".