المستبد العادل كبديل عن الديمقراطية!

2021.02.09 | 00:05 دمشق

aoun_1_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع بدء ثورات الربيع العربي زاد تداول تعابير مثل الحرية والديمقراطية، والتي كانت من المحظورات تقريبا في الفترات الماضية، لأنها تشير إلى مشاركة "العامة" في الحياة السياسية التي ظلت لعقود مقتصرة على طبقة محدودة من العسكر أو العائلات الحاكمة، استحوذت على السلطة والثروة، وظلت في مأمن من المساءلة والمحاسبة، برغم سجلها الحافل بالانتهاكات والفساد.

والحقيقة أن الديمقراطية، بمضامينها المعاصرة، أي كنظام سياسي يقوم على التعددية، والحريات الفردية والعامة، والانتخابات، واستقلالية القضاء.. إلخ مفهوم مستجد في المنطقة العربية إلى حد ما، حتى على صعيد الوعي والإدراك المجتمعي، فضلا عن الممارسة العملية التي ما زالت بعيدة عن متناول مجمل المجتمعات العربية، وأنظمتها السياسية المختلفة في شكلها بين جمهورية وملكية، والمتشابهة في مضمونها، كأنظمة شمولية، عسكرية، عائلية أو قبلية، تفتقر إلى الكفاءة وينخر فيها الفساد.

بعد عقد من ثورات الربيع العربي، تبدو المجتمعات العربية في حالة كمون وترقب وقلق، نتيجة الضربات التي وجهتها قوى "الثورة المضادة"

طبعا، لا نغفل هنا أن العديد من المناطق العربية عرفت منذ مطلع القرن الماضي أشكالا من الممارسات الديمقراطية، حتى في ظل الاحتلالات الأجنبية، وهي تجارب استمرت إلى ما بعد الاستقلال كما سوريا ومصر، لكنها قطعت بفعل الانقلابات العسكرية، ومن ثم سيطرة الحزب الواحد الذي تكرست معه ثقافة الاستبداد ومفرداته، وتراجعت قيم الديمقراطية، وقبول الآخر.

اليوم، وبعد عقد من ثورات الربيع العربي، تبدو المجتمعات العربية في حالة كمون وترقب وقلق، نتيجة الضربات التي وجهتها قوى "الثورة المضادة" للتحركات والهبات الشعبية المنادية بالحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة، حتى إن الكثير من المواطنين العرب باتوا أقل حماسة لأية تغييرات سريعة في مجتمعاتهم، وربما باتوا يفضلون حصول إصلاحات سياسية متدرجة في ظل النظام القائم، بدل المضي نحو الفوضى والحرب الأهلية، أو المجهول في أحسن الحالات، مستخلصين "العبر" من تجارب التغيير الدموية في سوريا وليبيا واليمن، وهو ما تعمل على تكريسه الآلة الإعلامية المهيمنة في الساحة العربية والتي تحرك معظمها القوى الممانعة والمتربصة بالتغيير المنشود.

وما يلاحظ نتيجة لذلك أنه باتت هناك حماسة أقل في الشارع العربي للاحتجاجات الشعبية في الشارع، مقابل ارتفاع في مستوى الاحتجاج على وسائل التواصل الاجتماعي، وهي مساحة لم تستطع الأنظمة السيطرة عليها تماما حتى الآن، لكنها تحاول استخدامها بدورها من أجل بث ثقافة جديدة، لتكرس الوضع القائم بوصفه أفضل الخيارات، حتى انتقلت هذه الثقافة إلى النخب العربية نفسها التي بات بعضها يردد مقولات مثل أن المجتمعات العربية غير جاهزة للديمقراطية في الوقت الراهن بسبب قلة التعليم، وهيمنة رواسب الماضي، وأن المطلوب ليس تغييرات راديكالية سريعة، بل حاكم عادل (المستبد العادل) يشرف على تطوير الدولة سياسيا واجتماعيا كي تصبح مؤهلة لتقبل نظام ديمقراطي، كما حدث في سنغافورة وكمبوديا والهند.

والواقع أن مثال الهند، يحمل نقيضه بنفسه، ذلك أنه حين استقلالها عام 1947 كانت نسبة الأمية في الهند نحو 88% من السكان، لكن ذلك لم يحل دون أن تصبح اليوم أكبر دولة ديمقراطية في العالم.

القوى الحاكمة اليوم في الساحة العربية تسعى إلى تكريس نفسها كخيار "عقلاني" وأن الخيارات الأخرى مجرد مؤامرات أو مغامرات متهورة، دون أن يكون لديها استعداد حقيقي لرعاية عملية تحديث وتطوير متدرجة لأنظمتها السياسية، بل الاكتفاء بالتركيز على بعض المظاهر الخارجية للديمقراطية، مع مواصلة سيطرة أفراد أو فئات قليلة على السلطة والثروة، وممارسة القمع متعدد الأشكال بحق المعارضين لها.

ضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية هي حقيقة واقعة، يتشارك فيها الحاكم والمحكوم معا

ومن هنا، فإن المنطقة العربية لم تشهد حتى الآن، بما في ذلك خلال مرحلة ثورات الربيع العربي، أي تداول للسلطة خارج إطار التوريث والانقلابات، باستثناء تونس، حيث أدرك حزب النهضة الإسلامي بقيادة راشد الغنوشي أن الاستئثار بالسلطة، وإقصاء الآخرين، سيكون وصفة للفشل، كما حدث في مصر بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك، واختار الغنوشي مقولة الإسلام الديمقراطي بدل الإسلام السياسي.

وفضلا عن ذلك، فإن ضعف ثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية هي حقيقة واقعة، يتشارك فيها الحاكم والمحكوم معا، وكلاهما يركن إلى وهم امتلاك الحق والحقيقة المطلقة، وهذا ينطبق على مجمل التلاوين الفكرية والثقافية السائدة، الإسلامية، الليبرالية، القومية، اليسارية.. إلخ.

وهذه الثقافة الأحادية- الإقصائية مصدرها قرون من التسلط حاولت خلالها القوى الحاكمة تسخير النص الديني لمحاصرة العقل العربي وتأطيره في نطاق ضيق يقوم على الولاء والطاعة، وتكريس صورة الحاكم ليس كموظف عام، بل كولي أمر ونعمة، طاعته واجبة.

وفي القرن الماضي أسهمت عوامل عدة في تكريس وديمومة نمط الحاكم المستبد، منها العامل الخارجي، حيث لم تساعد الدول الغربية بوصفها النموذج والحامي للنظام الديمقراطي العالمي، كما تقدم نفسها، أية تحولات أو تغييرات سياسية في العالم العربي باتجاه الديمقراطية، بل على العكس تحالفت مع الأنظمة الاستبدادية القائمة بهدف تأمين مصالحها، دون أن تأبه بانتهاكات هذه الأنظمة بحق شعوبها. كما أن الثروة النفطية كان لها تأثير سلبي على المسار الديمقراطي، لأن الأنظمة وضعت يدها على هذه الثروات وتقاسمتها مع حاميها الأجنبي، لتستقوي بها على شعوبها على حساب التطور الطبيعي للمجتمع المدني. وجاء الصراع العربي-الإسرائيلي، وما فرضه من عسكرة وشعارات تتصل بالمواجهة، ليسهم في عسكرة العقلية العربية، وفي تقديم شعارات المواجهة والصراع، على ضرورات البناء الداخلي، والتطور السياسي.

واليوم، فان محاولة "تحديث الديكتاتورية" وتجميلها بحجة أنها البديل العقلاني عن مغامرة التغيير، لن تنجح على الأغلب، لأن المجتمعات العربية التي عرفت عن كثب خلال السنوات العشر الماضية مدى فظاعة أنظمتها الحاكمة، واستعدادها لتدمير بلادها عن بكرة أبيها، مقابل التمسك بالسلطة، أيقنت أنه لا مناص من التخلص من هذه الأنظمة، التي وإن كانت استخدمت كل ما بحوزتها من أدوات قمع لإحباط تحركات شعوبها، فإن ما جرى كشفت أيضا مدى هشاشة هذه الأنظمة، وأجبرها على القبول ببعض التغييرات ولو كانت شكلية، مثل وجود أحزاب معارضة، وإعلام آخر، غير الإعلام "الوطني" التابع للنظام، وهي تغييرات أسهمت فيها أيضا التكنولوجيا الحديثة التي مكنت من تدفق المعلومات بالغصب من رقابة الأنظمة، وبالتالي تمكين المواطنين العرب من سماع الرأي الآخر، وكسر النمطية الأحادية للنظام الدكتاتوري التي كانت سائدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي.