المزرعة السورية واستراتيجية الكهف والغابة

2021.12.23 | 05:27 دمشق

2018-02-08t210335z_1825860202_rc110cb70120_rtrmadp_3_mideast-crisis-syria.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يمكن لعاقل، ضمن المعطيات السورية الراهنة، أن يتوقّع مصادفة شعب على درجة معقولة من الالتزام والنظام والإبداع والأخلاق السامية. شعب يُجرجَر، منذ عقود خمسة، نحو الكهف والغابة في آنٍ، من دون أن تُتاح له فرصة التلبّث، ليتأكد أيّ الطريقين أقلّ دماراً من الآخر. في نفس الوقت لا يمكن للسوري نفسه أن يستوعب تحولاته المضادة، بعد الإخفاق الكبير لثورة كانت التحدي الأكبر لقيمه الأخلاقية وروحه الوطنية، ضد نظام يعيش أقسى حالات الاعتلال النفسي، ويقدم نفسه كشخصية مطلقة تجتمع فيها كلّ المتناقضات، فهو يضرب بيد من حديد، ولا يجد حرجاً في ارتداء معطف الأب الحنون الحكيم الذي يقدم العطاءات والمكرمات لأتباعه. فنحن أمام طاغية متلوّن لا يتوانى عن قتل وتشريد ملايين السوريين في حين يتخذ لنفسه لقب "أبو الفقراء" أو "حامي العرين"، مسوّقاً لعقيدة "سوريا الله حاميها" التي تعني ضمنياً أنّ الله يحمي سوريا، لا لشيء عند السوريين كشعب، وإنما بفضل وجود القائد المبارك من قِبل الله. ومما لا شك فيه أنّ تشخيص الظواهر السلبية للمجتمع السوري ثم رفض الإقرار بوجودها، في هذه المرحلة المتأخرة من السقوط المدوّي للبلاد، لا بدّ أن تتحول إلى سلاح بيد السلطة لجعلها أشد فتكاً واستمرارية، خاصة أننا في خضم فصل جديد من المأساة السورية، أدى إلى خلخلة النسيج الأخلاقي داخل المنظومة المجتمعية التي فقدت بوصلتها، فاختلط كلّ شيء على كلّ شيء، ما أدى إلى تفاقم حالة "المواطن السوري المستقرّ"، صنيعة حكم الأسدين، الذي لن يبدي أيّ ردّ فعل تجاه الحالة الاقتصادية والمعيشية البائسة، أو القرارات الجائرة المستفزّة، وليس آخرها بالطبع أنّ عدداً من أعضاء مجلس الشعب التابع للنظام السوري طالبوا بتحسين الوضع المعيشي للمواطنين، ورفع مستوى الرواتب والأجور بنسبة 300%، لتقليص الفجوة بين الدخل والإنفاق، خاصة بعد صدور قرارات رفع أسعار البنزين والغاز المنزلي والمازوت، لتأتي الزيادة أخيراً بنسبة 30%!. ولن يهزّه بالطبع ذاك التصريح العنصري من وزارة التجارة الداخلية لتبرير ارتفاع الأجور أكثر من 100%: "الفقراء لن يتأثروا بالزيادة المذكورة آنفاً، لأنهم لا يركبون التكاسي أصلاً".

بطبيعة الحال النزوح والفقر وإزهاق أرواح عائلات بكاملها، إضافة إلى الإعاقة البدنية والافتقار إلى أبسط الضرورات، ما هي إلا غيض من فيض مخرجات الحرب السورية، غير أن ثمّة كلفة مستترة عادة ما تُغفل بسبب عدم تبدّيها للعيان، إنها اضطراب الصحة العقلية. وقد يتجلى هذا الاضطراب في صورة خوف، أو قلق، أو صدمة نفسية، أو اضطراب ما بعد الصدمة، أو شعور بعدم اليقين أو العجز. من هذا المنظور طال الأذى النفسي معظم السوريين، سواء ممن بقي في الداخل ويعيش رهاب الاعتقال، أو الموت المجاني بانفجار مباغت، كذلك الخوف على أبنائه الذكور من التجنيد، أو على بناته من التحرش أو الاغتصاب. أما من هم في الخارج فيعيشون تجارب أخرى أقساها الخشية على من تركوه خلفهم في الداخل، أو في تدبير حياتهم في المغترب. وحقيقة لا توجد دراسات أو أرقام دقيقة عن عدد المتضررين نفسياً من الحرب، أما الوقائع التي يرويها النازحون فلا تعدو كونها مشاهدات غريبة، أو شطحات من الكوميديا السوداء عن بشر هائمين على وجوههم في الحدائق العامة والشوارع، وكلّ لديه قصة مأساوية يرويها. يضاف إلى ذلك مخاوف متطيّرة لدى كل الأسر السورية لم تكن موجودة سابقاً، فلم يعد بإمكان السوريّ المصاب باضطراب الاكتئاب، الذي يتجسد في خليط من المشاعر الحزينة وفقدان الأمل والمتعة في الحياة، الاطمئنان في أيّ مكان، ابتداء من المنزل وانتهاء بالقبر. ويتحدث أطباء عن تزايد ممارسات العنف غير الموجهة التي يقوم بها الأفراد داخل المجتمع، والتي لا تقف خلفها أية دوافع منطقية، ويعدّ المراهقون الأكثر عرضة لممارسة أبشع الجرائم.

ثمّة كلفة مستترة عادة ما تُغفل بسبب عدم تبدّيها للعيان، إنها اضطراب الصحة العقلية. وقد يتجلى هذا الاضطراب في صورة خوف، أو قلق، أو صدمة نفسية، أو اضطراب ما بعد الصدمة

خذ مثالاً: "إقدام شابين، في العقد الثالث من العمر، على قتل والدهما بأكثر من عشرين طلقة في أماكن مختلفة من جسده، إذ ذكرت شبكة "السويداء 24" أنّ الجريمة وقعت في قرية الهويا، شرقي السويداء، بسبب خلافات سابقة بين الضحية وولديه اللذين لاذا بالفرار إلى جهة مجهولة". المدهش في هذه البلاد أنك تشعر بأنّ ثمّة جنوداً في الخفاء والعلن يطوقون السوريين من كلّ ناحية، بينما يعتنقون سيمفونية رعب ممنهجة ومرتبة للأخذ بناصية المواطن بعيداً عن همومه ومشاغله. مواطن يفضل أن يتبنى عقيدة "هو كويس بس اللي حواليه فاسدين" بدلاً من مواجهة نظام عدواني متوجس، لديه شعور دائم بالتهديد من قبل أعداء، إن لم يكونوا موجودين في الواقع يقوم بإيجادهم في مخيلته، لذلك يكون حذراً غير متسامح أبداً، وخصوصاً مع من يخالفه الرأي.

من البديهيات المعروفة أنّ باحات القهر والفقر لا تعرف سوى أجواء الارتباك والتخبط، وانقلاب المعايير، والمقاييس، والموازين، والقيم، وتشتت الرؤى والأذهان، وعدم معرفة الصح من الغلط، والنافع من الضار، والأول من الآخر. بينما المواطن المسحوق الذي يعي مدى استحالة إدراك الصواب في عالم استبدّ به الرعب، ينشغل، لعجزه، بالتفاهات والتَّرهات وجميعها تحت عنوان الملاهي والتَّلاهي عن تذوّق طعم الحقيقة. فالسوري اليوم، مثلاً، مستعدّ لأن يشغل جلّ وقته بنقاش عقيم حول جواز أو غير جواز قبلة عبد المنعم عمايري وكندا حنا في فيلم "الإفطار الأخير"، أو الأسباب الكامنة وغير الكامنة وراء حلاقة المطربة شيرين لشعرها بعد الطلاق، متناسياً تلك الطوابير القطيعية التي تحوّله إلى فرد ذليل في مزرعة فريدة. ومردّ ذلك إلى سعي النظام السوري الدؤوب إلى تتفيه الشعب، وتسطيح تفكيره، وقبوله بالدونية، كذلك تضخيم أهمية الحاجات الأساسية الغريزية على الحقوق البشرية، مثل المشاركة السياسية والمحاسبة والشفافية، وإقناعه أنّ واجب السلطة لا يزيد على تمكين الناس من الأكل والشرب والتكاثر، وأكثر من ذلك فهو فضل منها أو مكرمة. هذه الحقيقة مُرّة لا شك، ومرارتها زعاق لا يستطيع الإنسان الخلاص منه إلاّ بالتحرر مما يخيفه حقيقة، عن طريق مقاومة المستبدّ بالقدرة على تخيل وجود لحظة أبعد من اللحظة الراهنة التي تحاول السلطة تأبيدها، والتجرؤ على الحلم بوجود واقع مختلف، ومساحة جديدة للتعاطي مع حياة أفضل خارج مزرعة الرعب السورية. فالطغاة يجهدون لتشويه الرؤية الحقيقية للعالم، بحيث تصبح تلك الرؤية ضرباً من المحال، وفي سبيل ذلك ينشرون السراب والأفكار المضللة للتعمية على الواقع. لذا لا يمكن أن توجد حدود لفاعلية النظام السوري في القمع والتعقب، وفي تسويق استراتيجيات الإلهاء، وتشويه وتزييف الوعي العام داخل وجدان السوريين، الذين يتحولون تدريجياً من مؤيدين إلى خائفين متراجعين، أو من رافضين للظلم إلى معارضين له وباحثين بفاعلية عن بدائل. وفي كلا الحالتين يتحسبون. يقول الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي: "حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيداً عن المشكلات الاجتماعية الحقيقية، والهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى".