icon
التغطية الحية

المرأة والنحت والمسرح: الوعي الفني كثورة وجودية وسياسية

2022.05.08 | 15:41 دمشق

mn_rd_ayam_tht_alshms_almanya_8.jpg
مسرحية "عندما تبكي فرح" (عرض أيام تحت الشمس- ألمانيا)
+A
حجم الخط
-A

(عندما تبكي فرح) نصّ مسرحي للكاتب (مضر الحجي)، قدمته فرقة "مقلوبة" للمسرح على خشبة مسرح الرون في ألمانيا ضمن عرض حمل عنوان (أيام في الشمس)، وهو من إخراج الكاتب نفسه. يأخذنا هذا العمل إلى دور الوعي الفني عند المرأة في رحلة البحث عن الذات. فالعشرينية (فرح، تمثيل بيان ليلى الجراتلي) تعيش بعد مشاركتها السياسية الأولى في التظاهر، أسئلة الاستقلال والعاطفة، والأنا، والذات.

حكايات المرأة في التعبير عن التجربة السياسية الجمعية

تكتب (د. ماري إلياس) في تقديم النص: "هذا النص مهم لأنه يناقش ما يجري الآن في سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر، لا يغرق في العموميات ولا ينمط الشخصية التي تعيش الأحداث. فهو لا يضيع في الشعارات بل يطرح شخصيات حقيقية تعيش أزمة، وكأنه يسأل في خضم هذه الأحداث العامة ماذا يحل بالأشخاص؟ هل يتغير شيء في داخلهم؟ في سلوكهم؟ في الأخلاقيات العامة التي تحكم تصرفهم؟".

 

من عرض أيام تحت الشمس ألمانيا (1).jpg
من عرض أيام تحت الشمس ألمانيا

 

وتشير (د. ماري إلياس) في هذه النصوص إلى الترابط بين المصير الفردي للشخصيات النسوية والمصير الجمعي البلاد، فقضايا المرأة هي أدق الموضوعات التي تواجه الأخلاق الجمعية، فتكتب: "الثورة هي فعل جماعي لكنها أيضاً فعل فردي، كل شخص يجب أن يغير ما في نفسه. الثورة هي انتماء إلى الجماعة، وهي أيضاً انتماء إلى الذات، وتغير الذات ومحاكمتها واجب في فترات التغيرات الكبيرة. لابد من البحث عن أخلاقيات جديدة تحكم التصرفات الشخصية والاجتماعية".

المشاركة السياسية بداية أسئلة الوعي

هذا الترابط بين المشاركة السياسية وتشكل الوعي الذاتي، تتضح منذ بداية المسرحية حيث تبدأ الحكاية بمشاركة (فرح) الخريجة الجامعية من كلية الفنون قسم النحت في الفعل السياسي المظاهرة للمرة الأولى. ويكتسب فعل التظاهر إشارة رمزية إلى اكتشاف الذات، كما يتضح في الحديث الأول مع شريكتها (دنيا).

يشكل فعل المشاركة في الحدث السياسي، أي التظاهر، حدثاً إيجابياً في حياة الشخصيات. فالشخصية الأولى (فرح) تبدأ رحلة البحث عن الذات بعد المشاركة السياسية الأولى، أما الشخصية الثانية (دنيا) فأيضاً تتصالح مع ماضيها، مع أخيها في مشهد اللقاء مع أخيها في المظاهرة الشعبية، الذي يعبر عن إعادة علاقة التوازن للشخصية مع الماضي الذي كانت تحبه وتمردت عليه، لتشكل التظاهرات فرصة التصالح معه.

 

من عرض أيام تحت الشمس ألمانيا (7).jpg
من عرض أيام تحت الشمس ألمانيا

 

تروي (دنيا) اللقاء بأخيها (خالد) في المظاهرة والنظرات المتبادلة بينهما من الطمأنينة والحبور، "كل منهما اطمأن على الآخر" دون تبادل كلمات لأن صوت الرصاص كان يعلو فوق المتظاهرين. أما الشخصيات الأخرى فهي تمتلك مواقف متنوعة من الحدث السياسي الحاصل: الأب متجاهل، الحبيب معارض وناشط سياسي، والمحقق.

من الوعي السياسي إلى الأسئلة الوجودية

تؤدي مشاركة (فرح) بالتظاهر إلى فعلها السياسي الأول، وإلى لقائها الأول مع الشخصية التي ستلعب دوراً استثنائياً في حياتها المستقبلية، الثلاثينية (دنيا، تمثيل أمل عمران). تركت منزل العائلة باكراً، وهي تعيش وحدها بأسلوب أقرب إلى الشخصيات الوجودية. و(دنيا) هي من ستساعد (فرح) على تجاوز الأزمة الأمنية التي تجد نفسها فيها، وعلى مواجهة والدها، وتحقيق رغبتها في السفر للعيش مع حبيبها في عمان، وهي أيضاً من ستشجع (فرح) على فن النحت كوسيلة في البحث عن الذات. أما خطورة الفعل السياسي بالنسبة للمجتمع السوري فتتجلى بالموقف المتناقض الذي يطالب فيه حبيبها (أحمد، تمثيل مؤيد رومية)، فهو المعارض والناشط يمنع حبيبته من التفكير أو المشاركة السياسية. وبالأدق، هو غير قادر على تخيل الفاعلية السياسية من قبل المرأة التي يرتبط بها بعلاقة عاطفية.

إن صعوبة الحب أو الارتباط العابر للطوائف في المجتمع والقانون واحدة من الموضوعات الأساسية التي يتطرق إليها النص. فالارتباط ممنوع بين الحبيب السني (أحمد) والحبيبة الدرزية (فرح). ولهذا، يخطط الثنائي للانتقال إلى عمان للعيش معاً، لكن سلطة الحبيب المستقبلية تلوح في تصرفاته، سلوكياته، وأفكاره. وهو لا يستطيع تجاوز النظرة الاجتماعية إليهما كثنائي مساكنة من دون زواج، وهو ما ستثور (فرح) في وجهه بعد تجربة العيش المشترك في عمان، وتنهي علاقتها بأحمد.

السلطة الأبوية بين الحب والسيطرة

تتزامن في حياة فرح المواجهة مع السلطة السياسية في تجربة المحقق والاعتقال، والمواجهة مع السلطة العاطفية في العلاقة مع الحبيب المتسلط، والمواجهة المركزية أيضاً مع السلطة الأبوية. ففي أثناء محاولة انتقالها إلى عمان، تعتقل فرح على الحدود الأردنية ويكتشف المحقق ارتباطها بالحراك الثوري، وهكذا يضغط عليها (المحقق، تمثيل كامل نجمة) للحصول منها على معلومات عن شركائها، ولكن يستعمل أيضاً نفوذه للضغط على والدها. ومن هنا يبدأ الصراع الثاني الذي تخوضه فرح، فسلطة (الأب) عليها مكتوبة بدقة، مركبة بين الحب الفائض والرعاية التي تبقي ابنته الوحيدة قاصرة.

إن (الأب، تمثيل محمد آل رشي) الطبيب والميسور مالياً يميل إلى المحافظة ومعارضة الحراك الثوري، ويبقي اهتمامه المبالغ به على ابنته الوحيدة بعد وفاة والدتها بمرض السرطان، وتوحي الحوارات بأن الزوجة أصيبت بالمرض من الصعوبات التي عانتها معه، لذلك هو يشعر بالندم ويعتبر المحافظة على ابنته الوحيدة كمهمة تعويضية. يبرع المؤلف المسرحي والممثل المسرحي في أداء الشخصية التي تجمع في عاطفتها بين الحب والحنان والسيطرة التي تبقي الابنة قاصرة.

 

من عرض أيام تحت الشمس ألمانيا (8).jpg
من العرض

 

في العام 2005، أصدرت المخرجة (ريبيكا ميلر) أحد أبرز الأفلام السينمائية التي تعالج العلاقة المركبة بين الأب المثالي، والابنة التي تنمو بين الإبهار بشخصية الأب وبين الانحباس المقلق داخل سلطته. واعتبر فيلم (أغنية جاك وروز) من بين السيناريوهات الأكثر دقة في رسم علاقة حميمية تصل إلى درجة العشق. ما يزال (جاك، تمثيل دانيال دي لويس) يعيش في جزيرة معزولة استقر فيها مع جماعته من أنصار حركة الفوضوية أو الهيبيز الذين غادروها الآن. يكرس جاك حياته للعناية بالبيئة الخاصة للجزيرة وبالاهتمام بابنته (روز، 16 عاماً)، وكما يحمي الجزيرة من مشاريع المستثمرين فإنه أيضاً يحمي ابنته إلى درجة العزلة عن العالم.

 

من فيلم أغنية جاك وروز إخراج ريبيكا ميلر (1).jpg

 

إصابة الأب بالمرض والتحولات التي تعيشها روز بالانتقال إلى مرحلة المراهقة يخيم قلقاً وتوترا على مصير الثنائي، ويزيد الأمر تعقيداً حضور شخصيات إلى الجزيرة، مثل: حبيبة الأب السابقة، أصدقاء للجماعة من الشبان الجدد، والمستثمرين الطامعين بمقدرات الجزيرة. وبينما تحاول الابنة فقدان العذرية مع بعض الفتيان الزوار، يستشيط الأب غضباً ويطرد جميع الشبان والمستثمرين من الجزيرة. إنه يحمي الجزيرة والبيئة كما يحمي الابنة. وفي تلك الليلة، تحدث قبلة بين جاك وروز، وحين يدرك الأب عشق الابنة يغضب بشدة ويشرع بالبكاء، وكأن حالته الوجدانية تسرع بموته. منذ علمت بمرضه كانت الابنة (روز) قد اتخذت قراراً بحرق المنزل الوحيد واللحاق بوالدها إلى الموت. إنه انهيار العالم المثالي للحركات الفوضوية الهيبيز، وانهيار الصفاء الضروري للبيئة، وانهيار العلاقات العائلية القائمة على الانحباس أو الانبهار بعالم الأب.

إن رحلة (فرح) في المسرحية تبدأ بالمشاركة السياسية، ومن ثم الأسئلة الوجودية، لتعيش المواجهة مع الرعاية الأبوية المتسلطة، والعلاقة العاطفية المنمطة لأدوار الشريكين. تجربة الاعتقال، تجربة هجران منزل العائلة، والانتقال إلى مدينة أخرى حيث سيتم فيها أيضاً هجران العلاقة العشقية، تكتشف (فرح) رغبتها في ممارسة النحت، وهو الفن الذي درسته في التحصيل الجامعي. إن اكتشاف التعبير عبر الفن من قبلها يعتبر الخطوة الأخيرة في رحلة اكتشاف الذات.

 

من عرض أيام تحت الشمس ألمانيا (10).jpg

 

"فرح: سأنحت، لقد قررت، لابد أن أخلد هذا الألم، لا شيء يستحق الخلود هذه الأيام سوى ذلك الألم، لا شيء يفيض بالحياة هذه الأيام سوى ذلك القلب الهش، ذلك الإحساس اللعين بالخوف، بالحنين، بالتعب، بالرغبة بالموت".

ويدقق الكاتب في شكل ومضمون المنحوتة الأولى، فأولاً هو عبارة عن جسد أنثوي بما يحمله من تعبير الحسية والنسوية، وثانياً هو مستلهم من صديقتها الوجودية السياسية (دنيا)، في تعبير عن الإلهام الذي شكلته في حياة النحاتة.

"فرح: هذا يكفي، تلك هي النهاية التي أريدها، لقد بدأت النحت، منحوتة لجسد امرأة، سأسمي المنحوتة دنيا، بدأت بالنحت وبتقرير النهاية التي أريد".