icon
التغطية الحية

المدينة السورية كفضاء للتأويل الثقافي والذاكرة الجماعية

2025.09.17 | 19:28 دمشق

مشق
مبان مدمرة في دمشق ـ 6 آذار 2015 ـ أ ف ب
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- المدن السورية تعكس الذاكرة الجمعية وتشكّل المعنى الثقافي والاجتماعي، من دمشق إلى حلب ومدن أخرى، حيث أنتجت سرديات الانتماء والاختلاف.
- تعرضت المدن لمسار مزدوج من الترييف والتفكيك، مما أضعف طابعها المدني وحوّلها إلى جزر متقابلة تفصلها الحواجز والولاءات المتنازعة.
- استعادة المدينة تتطلب إعادة تأهيلها كفضاء جامع للمواطنة والتعدد الثقافي، مما يعزز الذاكرة المشتركة والعيش المدني بعيداً عن الطائفية.

لم تكن المدن السورية مجرد تجمعات عمرانية أو مراكز إدارية للدولة، بقدر ما كانت أيضاً مرايا للذاكرة الجمعية وحقولاً لتشكل المعنى الثقافي والاجتماعي. فمن دمشق، المدينة الأقدم المأهولة في التاريخ، حيث تتجاور طبقات الحضارات وتتشابك الأزمنة في أزقتها وأسواقها، إلى حلب التي مثّلت على الدوام ملتقى للتجارة والفن والتنوع البشري، مروراً بحمص ودرعا وإدلب واللاذقية والحسكة ودير الزور، كانت المدن السورية أكثر من فضاءات للسكن والعمل؛ كانت مسارح للهوية، وملتقيات للذاكرة، وفضاءات أنتجت سرديات الانتماء والاختلاف معاً.

لكن هذه المدن، التي حملت عبر قرون صور التعدد والتداخل، تعرضت في العقود الأخيرة إلى مسار مزدوج من الترييف والتفكيك. ترييفٌ أضعف طابعها المدني وأدخل إليها منطق العصبيات، وتفكيكٌ حوّلها أثناء الحرب إلى جزر متقابلة تفصلها الحواجز والولاءات المتنازعة. لقد أصبحت المدينة السورية مجالاً لصراع الذاكرة بقدر ما هي مجال لصراع السلطة، حيث يُعاد تعريف الأمكنة والأحياء وفق خطوط الانقسام، ويُختزل المعنى الجمعي في سرديات ضيقة.

ومن هنا، فإنّ مقاربة المدن السورية اليوم يجب أن تُقرأ كفضاءات ثقافية–اجتماعية مشحونة بالرموز، وكذاكرات متنازَع عليها بين الماضي والحاضر والمستقبل.

منذ أن صاغ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر مفهومه عن "إنتاج الفضاء"، أصبح الفضاء الحضري يُقرأ بوصفه نتاجاً لعلاقات القوة والمعنى والذاكرة، وليس بوصفه مجرد حيّز جغرافي أو عمرانٍ مادّي. فالمدينة وفق هذا المنظور، بناء اجتماعي–ثقافي يتداخل فيه السياسي بالرمزي، والاقتصادي بالمعرفي. ومن هنا، فإنّ دراسة المدن السورية لا تقتصر على تحليل عمرانها أو بنيتها السكانية، وإنما تنفتح على قراءة المدينة بوصفها حقل تأويل ثقافي، وكمخزن لذاكرة جماعية متنازَع عليها.

المدينة السورية بين الترييف والتفكيك

شهدت المدن السورية منذ سبعينيات القرن العشرين عملية ترييف قسري، حيث حُملت إلى قلب المدينة بنى الولاء الريفي–العصبوي لتطغى على المجال المدني–المديني. تحوّلت دمشق وحلب وحمص وغيرها إلى فضاءات محكومة بالسلطة الأمنية، فأُضعفت ديناميات التعدد الثقافي التي شكّلت عبر قرون جوهر المدينة السورية. وبفعل هذا التحوّل، لم تعد المدينة فضاءً لإنتاج المواطنة والتفاعل العام، وإنما انكمشت إلى حقل مراقبة وإخضاع، تُختزل فيه الذاكرة الجماعية ضمن سرديات رسمية واحدة.

هذا المسار أفضى إلى تفكيك المعنى المديني، بحيث فقدت المدينة طابعها كفضاء مشترك، وتحولت إلى ميدان تنازع للهويات الطائفية والسياسية. الحرب عززت هذا التفكيك، حيث انقسمت المدن إلى أحياء مغلقة. هكذا تحوّلت المدينة من فضاء للتعايش والتعدد إلى ساحة ذاكرة جرحية، تُستعاد فيها صور الحصار والقتل والتهجير أكثر مما يُستعاد فيها معنى العيش المشترك.

المدن كذاكرة متنازَع عليها

في هذا السياق، تبدو الحالة السورية أقرب إلى ما عرفته مدن مثل بيروت بعد الحرب الأهلية (1975–1990)، حيث تحولت أحياء المدينة إلى علامات على ذاكرة الانقسام الطائفي. وبالمقابل، يمكن النظر إلى تجربة برلين بعد سقوط الجدار (1989)، حيث مثّل الفضاء المديني تحدياً لإعادة صياغة ذاكرة جمعية متصدعة بين شرق وغرب. في الحالتين، برزت المدينة بوصفها حاملة لذاكرة الانقسام والالتئام معاً: فهي من جهة سجل للصراعات، ومن جهة أخرى مجال لإعادة بناء مشروع مشترك.

وإذا كان لوفيفر قد ربط إنتاج الفضاء بعلاقات السلطة، فإنّ ميشيل فوكو ذهب إلى أبعد من ذلك حينما اعتبر أن الفضاء المديني يعكس أنماط الضبط والمراقبة. في سوريا، التقاء هذين المنظورين يكشف أن المدينة كانت فضاءً مراقباً ومسيطراً عليه، أكثر مما كانت فضاءً لإنتاج حرية مدنية.

المقارنة مع كيب تاون في جنوب إفريقيا تُظهر مثالاً آخر؛ وهي المدينة التي عاشت الفصل العنصري (الأبارتايد) ما تزال تحمل ذاكرة الجدران والحواجز، لكنها تحاول اليوم أن تعيد إنتاج نفسها كفضاء يتجاوز الفصل إلى المشاركة. هذه المقارنات تضع المدن السورية أمام سؤال مركزي حول إذا ما ستبقى فضاءات محكومة بذاكرة القهر والانقسام، أم يمكن أن تعاد صياغتها كمجالات مواطنة جديدة.

المدينة السورية كفضاء للذاكرة الجمعية

تؤكد دراسات الذاكرة، كما في أعمال موريس هالبواكس، أن الذاكرة ليست ملكاً فردياً، وإنما هي جماعية تُصاغ ضمن فضاءات محددة.

المدينة السورية، من دمشق إلى الحسكة، ليست مجرد تجمعات سكانية، وإنما أرشيف حي للذاكرة الوطنية. الأزقة والأسواق والساحات الكبرى تحمل طبقات من الذاكرة؛ بعضها ينتمي إلى تاريخ التعدد والتعايش (الأسواق العتيقة في حلب، أو باب توما في دمشق)، وبعضها الآخر ينتمي إلى الذاكرة الصدمية للحصار والدمار (حمص القديمة، حلب الشرقية، الرقة). هذه الذاكرة المركبة تجعل المدينة مجالاً للتأويل، فهي تُقرأ كذاكرة يُعاد إنتاجها وفق الحاضر السياسي والاجتماعي.

السؤال المركزي اليوم يدور حول كيفية استعادة المدينة السورية بعد الحرب بوصفها فضاءً جامعاً. هنا يُمكن أن نستدعي مفهوم "المدينة كفضاء مواطنة"، حيث تتجاوز وظيفتها الإدارية والعمرانية لتصبح مجالاً للتعدد والاعتراف. التجربة الإسبانية بعد حقبة فرانكو قد تكون دالة، إذ أُعيد تأهيل برشلونة ومدريد كفضاءات مفتوحة للثقافة والفن والتعدد، بما حوّل المدينة إلى مجال حيوي لإعادة تعريف الهوية الوطنية.

في الحالة السورية، يتطلب ذلك إعادة الاعتبار للفضاء العام (الساحات، المنتديات، المراكز الثقافية) كمجال للمواطنة، وليس كمناطق مراقبة. كذلك يتطلب إعادة بناء المدينة كبنية ذاكرة، بحيث تُحفظ طبقات الماضي دون إنكارها أو طمسها، فضلاً عن تحويل المدينة إلى مختبر للتعدد الثقافي، حيث يُعاش الاختلاف كشرط للعيش المشترك.

إنّ المدينة السورية لا يجب أن تقف عند حدود أن تكون مجرد تجمع سكاني مهدّم يحتاج إلى إعادة إعمار، وإنما لا بد أن تكون مفهوم ثقافي–اجتماعي يتصل بالذاكرة والهوية والمواطنة. فإذا أُعيد إنتاجها كفضاء مراقبة أو محاصصة، فإنها ستبقى رهينة للانقسام. أما إذا أُعيد تأويلها بوصفها فضاءً جامعاً للتعدد والاعتراف، فإنها قد تصبح الركيزة الأساسية لإعادة بناء وطن لا يقوم على الطائفية والتجزئة، بل على الذاكرة المشتركة والعيش المدني.