المدرسة التعبيرية.. روح الفن الحديث

2023.05.28 | 05:13 دمشق

آخر تحديث: 28.05.2023 | 05:13 دمشق

لعل لفظ "التعبير" من أكثر الألفاظ شيوعا عند التحدث عن الفن أو عند محاولة تحليل أو نقد أو فهم عمل فني ما، فكثيرا ما نسمع عبارة (ما الذي يريد أن يعبر عنه هذا الفنان؟) أو (عما يعبر هذا العمل؟).

وعلى الرغم من أن معنى هذه الكلمة يبلغ من البداهة حدا لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل، فإنه عندما يتم التحدث عن الفن بشكل نقدي نلاحظ بعض الغموض الذي يكتنف بعض التحليلات النقدية والفلسفية.

 وإذا كان أي عمل فني يحمل في مضمونه معنى ما وبالتالي يعبر عن شيء ما فلماذا نجد النقاد يصنفون المدارس أو التيارات الفنية في كثير من الأحيان دون الاكتراث للبعد التعبيري الذي يحمله معه؟ ولماذا تم تصنيف الكثير من الأعمال الفنية تحت مسمى التعبيرية إما بشكل مجرد أو بشكل مرادف لسمة أخرى كالتجريد التعبيري مثلا؟

فما الذي يميز الأعمال التي تحمل الطابع التعبيري والتي تصنف على أنها أعمال تابعة للمدرسة التعبيرية؟ وكيف نشأت هذه المدرسة وما الظروف التاريخية التي أدت إلى نشوئها؟ ولماذا ارتبطت بداية بالفنانين الألمان؟

مفهوم التعبيرية

يذهب أنصار هذا التيار الفني إلى أن مضمون العمل الفني التشكيلي له القيمة العليا في العمل وليس للأسلوب أو الشكل أهمية مقارنة بالمضمون، وأن هذا المضمون لا بد من أن يكون محملا بكم من العواطف والتي غالبا ما تكون مأساوية أو تراجيدية والتي تعتبر سمة في العمل الفني التعبيري، ولوحات التعبيريين لا تلتزم بقواعد المنظور ولا تأخذ من الطبيعة إلا ما يخدم حاجة الفنان للتعبير عما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس، وله أن يبدل بالشكل واللون والخط بما يخدم المضمون، والفنان التعبيري يتناول الموضوع ويعالجه معالجة ذاتية خاضعة لرؤيته الخاصة تجاهه.

فالتعبيرية إذا حركة ذاتية فردية ولكل فنان أسلوب خاص يتميز به، وفي أعمال الفنانين التعبيريين من الممكن أن نشاهد لون السماء أخضر وأمواج البحر حمراء والأرض تصطبغ باللون الأزرق مثلا.. وقد يلجأ الفنان إلى تحريف متعمد للنسب المتعارف عليها للأشخاص والأشياء، فقد نرى الأعناق تتطاول والأجساد تتلوى أو نرى وجوه بدون ملامح أو بملامح غير مألوفة وقد تكون شاذة ومنفرة أحيانا.

فهذا بول غوغان الذي يعتبر من أبرز رواد المدرسة التعبيرية يوصي الفنانين الشباب بعدم متابعة الطبيعة عن كثب شديد ويدعوهم إلى البحث عن ذواتهم بدلا من التشبث بالعلم المرئي.

لقد تحدى التعبيريون جميع قوانين الطبيعة وقواعد الرسم الأكاديمي بجرأة وشجاعة لا نظير لها وأفسحوا لذواتهم المعذبة مساحة كبيرة من الحرية الفردية في معالجة الشكل والموضوع استنادا على اللون بالدرجة الأولى، وفي هذا نذكر ما ورد في إحدى رسائل فان كوخ إلى أخيه ثيو: (بدلا من أن أحاول أن أنقل ما أمام عيني بحذافيره فإنني أستخدم اللون استخداما جائرا حتى أعبر عن نفسي بقوة أكبر).

لوحة للفنان بول غوغان

أراد هؤلاء الفنانين الجدد أن يفصحوا عن عواطفهم ونوازعهم المدفونة من خلال التركيز على خصائص الأشياء بشكل إيحائي رمزي حيث تغلغلوا إلى ما هو أعمق من الأشكال الخارجية للأشياء فكانوا يصورون الطبيعة أو الأشخاص ليس كما تبدو عليه وإنما كما تبدو لهم أو كما يشعرون بها كل حسب إحساسه وأسلوبه الذي يميزه، وهذا ما سمي لاحقا بالحقيقة اللامرئية واللاملموسة، لقد أرادوا أن يعبروا عن أنفسهم فقط، فكانت شخصية الفنان في مقام أعلى من الموضوع الذي يعالجه ويصوره، ويبدو ذلك جليا في الصور الشخصية أو البورتريهات التي نفذها التعبيريون الرواد حيث تم التركيز على الدلالة العاطفية وليس على الشبه.

لفهم أعمق لا بد لنا من العودة لجذور نشأة هذا التيار الفني

في الحقيقة إن التعبيرية اتجاه دائم في الفن تزداد حدة ظهوره في الأوقات العصيبة وفي الأزمات الاجتماعية التي تولد حالة من القلق الروحي والتوتر النفسي، وعلى الرغم من أن الفكرة وجدت على الدوام فإن أول من ابتدع تسميتها حديثا هم فلاسفة الفن الألمان وأول من نشرها الناقد الألماني (هيروارث والدين) في مجلته (العاصفة1910-1928) وهي واحدة من المجلات المدافعة عن الفن الحديث في برلين، وقد شاع مصطلح التعبيرية في المعارض التي نظمها والدين في برلين وخارجها حيث أنه أدرج تحت هذا المفهوم جميع أعمال التكعيبيين والتجريديين والوحشيين مشترطا ومستندا على قاعدة أن العمل التعبيري يجب أن يكون تجسيدا لعاطفة ويحمل رؤية ذاتية للفنان.

لوحة للفنان فنسنت فان كوخ

وقد عجز الكثير من النقاد في ذلك الوقت عن تقدير القيمة العاطفية الكامنة في العمل الفني حق التقدير وذلك بسبب تعارض وجهتي نظر رئيسيتين، حيث يذهب البعض إلى أن القيمة الجمالية في العمل الفني إنما تستند على الشكل بالدرجة الأولى وهؤلاء هم أصحاب النظرية الشكلية، ويذهب البعض إلى أن المضمون العاطفي أو النفسي هو الأهم من الناحية الجمالية والفنية بغض النظر عن القيم الشكلية للعمل، وهذا يشبه إلى حد كبير التعارض القديم بين الكلاسيكية والرومنتيكية، وعليه فإننا نستطيع القول أن التعبيرية هي النسخة الحديثة للرومنتيكية مصطبغة بمشاعر القلق والتوتر النفسي والذي يعتبر سمة العصر الحديث.

وعلى الرغم من استخدام مصطلح التعبيرية على معظم حركات الفن التي قامت في مطلع القرن العشرين سابقا، إلا أننا اليوم أصبحنا أكثر دقة في تجديد الأعمال التعبيرية باعتبار أنها نمط وتيار فني جاء بعد الانطباعية يرتكز على الاهتمام بالبعد العاطفي الذي يحمله العمل الفني والذي لا يشترط أن يكون مستندا على أسس شكلية منطقية بالمعنى المتعارف عليه.

رواد التعبيرية والتعبيرية الألمانية

لقد ظهرت المدرسة التعبيرية في ألمانيا بأقوى صورها على الإطلاق وذلك على الرغم من أن النزعة التعبيرية لم تظهر في ألمانيا بداية، وقد اعتبرت لاحقا بأنها ظاهرة ألمانية بالدرجة الأولى.

يعتبر الكثير من النقاد أن الفنان الهولندي فنسنت فان كوخ الأب الروحي للتعبيرية الحديثة وعليه فيقدرون بداية ظهورها حوالي عام 1885، وجاءت كرد فعل مناهض للانطباعية الواقعية في فرنسا، ومن أبرز روادها أيضا نذكر الفنان البلجيكي جيمس أنسور والنرويجي أدفارمونش الذي كان يكن إعجابا كبيرا لفان كوخ وسوراه وهنري لوتريك، ويعتبر مونش صاحب الفضل الحقيقي في انطلاق التعبيرية الحديثة في ألمانيا، حيث التف من حوله الفنانين الألمان والذين تبنوا التعبيرية كحركة فنية ناهضة، وإن أول معرض أقامه في برلين عام 1892 أثار ضجة كبيرة في الوسط الفني وكان نقطة جذب للفنانين الشباب الذين كانوا يتوقون للتجديد، فقد كانت أعمال هذا الفنان تضج بمشاعر القلق والشعور بألم الوحدة والإحساس بالمعاناة، ولعل لوحته (الصرخة) التي تعتبر من أشهر الأعمال الفنية في العالم أكبر دليل على ما كان يعتمل في نفس هذا الفنان من معاناة وألم، ولنا أن نذكر عبارته الشهيرة (إني أسمع الصراخ في الطبيعة).

 لوحة للفنان النرويجي ادفار مونش

ذهب النقاد إلى أن التعبيرية بمعناها الاصطلاحي الدقيق ظهرت عام 1905 على وجه الدقة عندما قام ثلاثة من الفنانين الشبان بتأسيس جماعة (الجسر) كأول جماعة تعبيرية في ألمانيا وهؤلاء الفنانين هم: إرنست لودفيج كرشنر وإيريك هيكيل وكارل شميدت وتلوف، ولاحقا انضم إليهم آخرون منهم ماكس بشتاين وإتو مولر وإميل نولد، وأقامت هذه الجماعة أول معرض لها عام 1906، وما لبثت هذه الجماعة أن تفرقت بسبب بعض الخلافات الداخلية وأيضا بسبب غيوم الحرب العالمية الأولى التي بدأت تلوح في الأفق.

تأثرت هذه الجماعة بأعمال الرواد بشكل واضح ويعتبر إميل نولد الفنان الأكثر نزقا من بين هؤلاء الفنانين، وكان الأكثر جرأة وتهورا، فقد كانت أعماله مدهشة وصادمة حيث كان يستخدم الألوان بعفوية صادقة مهما كان اللون فظا وصارخا.

لوحة للفنان ايميل نولد

وتعتبر هذه الجماعة من أوائل الفنانين الأوربيين الذين اهتموا وتأثروا بالفن البدائي حيث انكبوا على دراسة الفن الزنجي بكل جدية وحماس واهتموا أيضا بالفنون الشعبية والفن الفطري.

ومن التجمعات الفنية المنسوبة للمدرسة التعبيرية (جماعة الفارس الأزرق) التي تأسست في ميونخ عام 1909 وكان من الفنانين المنتسبين لها واسيلي كاندنيسكي و اليكس فون جوالينسكي وهما روسيا الجنسية ، والفريد كوين النمساوي وبول كيلي السويسري وفرانز مارك وأوجست ماك الألمانيان، وتميزت هذه الجماعة بتنوع الجنسيات على عكس جماعة الجسر وقد كانوا على صلة وثيقة بفناني الطليعة في فرنسا مثل رووه وبيكاسو وبراك، وكانوا أكثر انفتاحا على المدارس الرائجة في ذلك الوقت وأكثر مرونة بالتعامل مع الواقع، ومع الوقت انتهج كل فنان منهم نهجه الخاص.

لقد حظي الفنانون التعبيريون بشهرة وتقدير من المجتمع الفني وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث فتحت دور العرض أبوابها وعادت الحركة الفنية إلى نشاطها، ورأوا أعمالهم تطبع على اللافتات والبطاقات البريدية وقام عدد من النقاد بتأليف الكتب لتعريف وشرح فنهم للجماهير، إلا أن هذا التألق ما لبث أن انطفأ وتلاشى مع وصول النازيين إلى الحكم وسيطرتهم على الحياة الثقافية، حيث اعتبر النازيون أعمال الفنانين التعبيريين أعمال منحلة وقميئة وشاذة، وعمدوا إلى تحقيرهم وتحقير أعمالهم بشتى الطرق، وحوصروا ومنعوا من ممارسة الفن حتى في بيوتهم ومراسمهم الخاصة، وخاصة الفنانين الألمان الذين لم يتمكنوا من الفرار فتعرضوا لشتى أنواع الاضطهاد، وحتى أن كريشنر لم يحتمل فداحة ما يحصل له ولجماعته فقرر الانتحار.

وعلى الرغم مما لحق بأعضاء الحركة التعبيرية في ألمانيا من قبل النازية فقد انبعثت التعبيرية في بلاد أخرى تدريجيا إلى أن وصلت أفكارها إلى شتى أنحاء البلاد في أوربا وخارجها وصولا لأميركا والمكسيك وأميركا اللاتينية وحتى في البلاد العربية وفي كل مكان في العالم تقريبا، وذلك أن التعبيرية بما تحمله من أفكار تلبي حاجة متأصلة في نفس الفنان مهما كانت جنسيته، ولا تلزم الفنان بأسلوب أو موضوع فيستطيع الفنان الخلاق إطلاق العنان لريشته وخيالاته ليعبر عن ذاته وثقافته وما يعتمل في نفسه بالأسلوب الذي يرتئيه.