المخطط الأمني للتغيير الديموغرافي في سوريا

2018.09.06 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يعمـل النظـام السـوري وحلفـاؤه وبشكل متسارع علـى تنفيـذ سياسـة أمنية ممنهجـة للتهجيـر القسـري والتغيير الديموغرافي في المناطـق ذات الأغلبيـة السـنية باسـتخدام عـدد مـن الوسـائل منـذ عـام 2011 م وحتـى الآن.

وتشـارك إيـران علـى وجـه الخصـوص بـدور رئيـسي فـي هـذا المخطـط مـن خـلال الدعـم العسـكري الكبيـر الـذي تقدمه عبر ميليشـياتها العراقيـة واللبنانيـة والأفغانية، كمـا تسـاهم مـن خـلال تمويلهـا لعمليـات شـراء الأراضـي والعقـارات، ومـن خـال ترويـج الفكـر الطائفـي فـي تشـجيع الشـيعة علـى القتـال وعلـى الإقامـة فـي سـورية، ولا ننسـى الدعـم الروسـي فـي هـذا المجـال.

بداية التغيير الديموغرافي في سورية كانت منـذ تسلم حـزب البعـث السلطة فـي سـورية، بـدأت عملية التغيير في التركيبة السكانية للمدن السـورية الرئيسـة وخاصـة العاصمـة دمشـق التي  شـهدت تغييـرا تدريجيا" متسارعا"، حيـث بـدأ الآلاف مـن قرويـي السـاحل العلوييـن بالانتقـال إلـى العاصمـة لشـغل الوظائـف المدنيـة والعسـكرية، ومع نهاية الستينات أصبحـت اللهجـة السـاحلية الخاصـة بهـم أمـرا ملاحظا" بسـهولة فـي الدوائـر الحكوميـة.

ومـع خلال هـذا الواقع بـدأت تتشـكل أحيـاء خاصـة بالعلوييـن فـي دمشـق، وبدرجـة أقـل فـي حمـص ومـن أهـم هـذه الأحيـاء فـي دمشـق:

بدأ نظـام الأسـد بمنـح الامتيـازات للطائفـة العلويـة وتقديـم حوافـز لتشـجيع الـزواج والإنجـاب فـي صفـوف الطائفـة، وهـي السياسـة التـي دعمهـا رفعـت الأسـد فـي نهايـة السـبعينيات.

عـش الـورور ومـزة 86 والسـومرية ومسـاكن الحـرس وضاحيـة الأسـد وغيرهـا كثيـر. ومن هنا بدأ نظـام الأسـد بمنـح الامتيـازات للطائفـة العلويـة وتقديـم حوافـز لتشـجيع الـزواج والإنجـاب فـي صفـوف الطائفـة، وهـي السياسـة التـي دعمهـا رفعـت الأسـد فـي نهايـة السـبعينيات فيمـا تولى شـقيقه جميـل الأسـد نشـر المذهـب فـي المحافظـات الشـرقية، وأريـاف حمـص وحمـص عبـر جمعيـة المرتضـى التـي تولـى رئاسـتها كمـا تـم تقديـم تسـهيلات قانونيـة لعلويـي تركيـا ولبنـان للإقامـة والتجنيس في سورية، وبدا العلويون بتولي قيـادة أغلب وحـدات الجيـش ضبـاط ع فيمـا كانـت المؤسسـات الأمنيـة ذات أغلبيـة علويـة حتـى بيـن صفـوف عناصرهـا الأقـل رتبـة، كمـا تـم إنشـاء وحـدات عسـكرية علويـة خالصـة مثـل سـرايا الدفـاع وسـرايا الصـراع والحـرس الجمهـوري. وبدأ أيضا في إدمـاج مفاهيـم شـيعية فـي المذهـب العلـوي تقربا" من النظام الإيراني، وأدت هـذه المقاربـة إلـى تعزيـز العلاقـة مـع النظـام الإيرانـي الباحـث عـن شـركاء اسـتراتيجيين فـي المنطقـة، كمـا سـاهمت فـي انفتـاح المجتمـع العلـوي علـى نظيـره الشـيعي، وخاصـة فـي لبنـان والعـراق وهـو مـا ظهـر أثـره بشـكل واضـح بعـد عـام 2011م،  وفـي إطار سـعيه لتحقيـق هـذا الاندمـاج قـدم نظـام الأسـد تسـهيلات واسـعة للحجـاج الشـيعة كمـا قـدم تسـهيلات اقتصاديـة وقانونيـة ودينيـة، للمؤسسـات والأفـراد الشـيعة وتحولـت بعـض مناطـق دمشـق مثـل جرمانـا والسـيدة زينـب إلـى مناطـق ذات أغلبيـة شـيعية بشـكل سـريع، وتمكنـت المؤسسـات الدينيـة الشـيعية مـن ممارسـة أنشـطة تبشـيرية برعايـة مباشـرة مـن الملحقيـة الثقافيـة فـي السـفارة الإيرانيـة.

أما التغيير الديموغرافي أثناء الثورة وفي تحليـل الوقائـع الميدانيـة فـي سـورية منـذ بداية الثورة تبين وبلا أدنى شك وجـود خطـة ممنهجـة لتغييـر الواقـع الديموغرافـي فـي سـورية ككل، وفـي المناطـق المختلطـة علـى وجـه الخصـوص.

وفي إحصائية أخيرة لعدد الشهداء في سورية قدر بحوالي مليون مواطن وعدد اللاجئين خارج سوريا أكثر من 6 مليون بالإضافة إلى حوالي 10 مليون نازح داخل سـورية بحسـب أقل التقديرات والمـدن التـي تعرضـت لأكبـر قـدر مـن التدميـر ريف دمشق وحمـص وحلـب ودرعـا وديـر الـزور، وينتمـي الغالبيـة المطلقـة مـن هـؤلاء للطائفـة السـنية

من الوسائل التي أتبعها النظام الأسدي في تحقيق التغيير الديموغرافي:

-حرق سـجلات المحاكم والنفوس لطمس حقوق الأهالي السـنة غالبا كما في حمص عام 2013

- التوغل في تنفيذ المجازر والتي طالت مناطق السنة حصرا مع جرائم الاعتقال والتصفية والنهب والاغتصاب التي مارستها تلك الميليشيات على الحواجز العسكرية، وكانت سببا في هجرة الناس.

-شـراء العقارات وهـدم المبانـي كمـا فعـل النظـام فـي بسـاتين المزة عـام 2012م البالـغ عـدد سـكانها 125 ألـف نسـمة ضمـن المرسـوم رقم 66 لعـام 2012 القاضـي بتهجيـر أهلهـا بحجـة إحـداث منطقتيـن تنظيميتيـن فـي محيـط دمشـق، وتلعـب الحـوزات دورا كبيرا في شراء العقارات واسـتبدالها بملكيات لشـيعة وعلويين كمـا فـي العمـارة والشـاغور والصالحيـة (فنـادق البتـراء وفينيسـيا وغيرهـا) التـي تـم شـراؤها، وجعلهـا مقـرات لميلشـيات أبـي الفضـل العبـاس.

- إجبـار أهالـي المـدن المحاصـرة علـى توقيـع هـدن مقابـل وقـف القصـف عليهـا، وإدخـال بعـض الطعـام إليهـا تمهيـدا لإجبـار سـكانها علـى مغـادرة مدنهـم، وقراهـم تحـت ضغـط الجـوع والحصـار والتـي بـدأت منـذ عـام 2013 كحصار الغوطة الشرقية والريف الغربي والشمالي لدمشق (الزبداني ووادي بردى ودمر وقدسيا الغوطة الشرقية والغوطة الجنوبية) ومدينة حمص القديمة وحي الوعر والقصير وأحياء حلب الشرقية.

تم التركيز على عدد من المناطق وتم اقتلاع سكانها:

-لعل المنطقة الأهم بالنسبة لإيران هي العاصمة السورية دمشق، وذلك لدلالاتها الدينية والسياسية، وتعزز إيران نفوذها في دمشق عبر الدفع في إنشاء الحسينيات وتعظيم المظاهر الشيعية في المدينة التي تعرض سكان أريافها إلى عمليات تهجير ممنهجة، ومن ناحية ثانية فإن نظام الأسد يساعد المخطط الإيراني في تغيير التركيبة السكانية للأحياء الدمشقية عبر بيع العقارات إلى عائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين بمبالغ كبيرة جدا" وصلت إلى عدة أضعاف سعرها الحقيقي.

- القصيـر اجتاحتهـا مليشـيات حـزب الله عـام 2013 وهجـرت أهلهـا ودمـرت مسـاجدها ومنعـت أهلهـا مـن العـودة إليهـا، ووطنـت مكانهـم شـيعة مـن مليشـيات طائفيـة وأهمهـم (لـواء الرضـا) ولـم يخـف ٍ الحـزب نيتـه تحويلهـا لملاذ آمـن للشـيعة.

- أحيـاء حمـص القديمة وهـي التـي بـدأ فيهـا تطبيـق سياسـة التغييـر الديموغرافـي، وقـد تعرضـت أحيـاء المدينـة إلـى قصـف واسـع النطـاق انتهـى إلـى تدميرهـا تمامـا، وأجبـر معظـم سـكانها علـى النـزوح واللجـوء فيمـا خـرج مـن تبقـى منهـم فـي صفقـة تـم التوصـل إليهـا فـي عـام 2014 بعـد حصـار قـاس تعرضـت لـه هـذه الأحيـاء بالتـوازي مـع القصـف المكثـف والمستمر.

- الزبدانـي حيـث تـم فيهـا عقـد اتفـاق أجلـي بموجبـه بعـض سـكانها المحاصريـن مقابـل إجـلاء جرحـى مـن كفريـا والفوعـة وفـق اتفـاق تـم

التوصـل إليـه بإشـراف إيرانـي عـام 2015، لكـن الاتفـاق لـم ينـه حالـة الحصـار.

- داريـا التـي كان يقطنهـا حوالـي 400 ألـف مـن السـنة ارتكـب فيهـا النظـام مجـزرة عـام 2012 راح ضحيتهـا قرابـة 600 مدنـي بينهـم 61 امـرأة و10 أطفـال ثـم حاصرهـا، وبـدأ يرتكـب المجـازر عبـر القصـف وفـي نهايـة شـهر آب 2016 خـرج جميـع أهالـي داريـا منهـا فـي صفقـة تم التوصـل لهـا مـع قـوات النظـام، وذكرت مصادر موثوقة في وقت لاحق أن 300 عائلة تنتمي  لحركة النجباء الشيعية العراقية قد وصلوا إلى المدينة للإقامة فيها.

- جبـال التركمـان والأكـراد حيـث يمتـد جبـل التركمـان علـى مسـاحة 530 كـم مربـع وسـكانه أكثـر مـن 300 ألـف تـم تهجيرهـم بالكامـل

واحتـلال بلداتهم.

- حلـب تـم تهجيـر أغلـب سـكانها تحـت القصـف الجوي والبراميـل والحصار، ويقدر عدد المهجرين من حلب حوالي 2600000 مليونان وستمائة ألف مواطن.

- ريف حماة مثل قرى العشارنة وقبر فضة والرملة حيث تم تهجير أهلها تحت القصف وسكنتها عوائل من اشتبرق العلوية.

وهناك مدن ومناطق أخرى تم محاصرتها وتدميرها والتنكيل بها وتهجير أهلها، من أبرزها المعضميـة التـي دخلـت فـي هدنـة منـذ 2013 بعـد حصـار دام سـنتين كاملـتين، ومن ثم تم تهجير أهلها البالغ عـددهم حوالـي 45 ألـف نسـمة كذلك حي الوعر الحمصي الذي هجر أهله البالغ عددهم 40 ألف مواطن والمنطقة الأهم الغوطة الشرقية التي تم محاصرتها والتنكيل بأهلها،

في سبتمبر/أيلول من العام 2012 وقَّع بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 66 القاضي بـ" تنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرَّح به"، وبكلمات أخرى توفير الأسس القانونية والمالية لمشروع إعادة الإعمار قانونياً.

واستخدام كل أنواع الأسلحة المحرمة حتى السلاح الكيماوي استخدم أكثر من مرة على هذه المنطقة فقد تم تهجير عدد كبير من أهلها البالغ عددهم 850 ألف مواطن، ولم يتبقَ إلا القلة القليلة ويقدر عددهم بأقل من 100 ألف مواطن

واستخدم الأسد إعادة الإعمار للتغيير الديموغرافي بمراسيم قوانين  إذ في سبتمبر/أيلول من العام 2012 وقَّع بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 66 القاضي بـ" تنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرَّح به"، وبكلمات أخرى توفير الأسس القانونية والمالية لمشروع إعادة الإعمار قانونيا" على أساس هذا المرسوم اذ أعلن النظام قراره بتدمير ومصادرة منطقتين كبيرتين في العاصمة دمشق معروفتين بمناصرتهما للمعارضة الأولى خلف مستشفى الرازي على الطريق الرئيسي لأوتوستراد المزة، والثانية على الضفة الجنوبية من العاصمة السورية بجانب حي القدم .

الجهات المسؤولة في دمشق برَّرت قرارها مدعية أن الهدف منه هو تحسين نوعية السكن وأن المناطق الأخرى ستتبع نفس الخطوات لتحديث مناطق السكن العشوائي في كل البلاد بينما مناطق سكن عشوائي أخرى يسكنها مؤيدون للنظام كـ "مزة 86" الملاصق لحي المزة في شمال غرب العاصمة، و"عش الوروَر" في شمال شرق العاصمة لم يشملها المخطط مما لا يدع مجالًا للشك بالبُعد الأمني السياسي لهذا القرار إلى جانب معاقبة السكان المعارضين والمشروع كان يُعتبر من قبل البعض عقابًا جماعيًّا، وجزءاً من خطة أمنية أكبر للنظام ترمي إلى فرضِ تغييرٍ ديموغرافي في العاصمة عبر إحاطتها بمناطق سكانها من مؤيديه ومن الأقليات الدينية.

وهناك حالةٌ أخرى حصلت في مدينة حمص عندما وافقت البلدية عام 2015 على خطة إعادة إعمار حي بابا عمرو، وفي مارس/آذار 2017 أنشأت البلدية شركتها القابضة الخاصة لتمسك بالمشاريع العقارية في خطة إعادة الإعمار تضمنت 465 قطعة أرض مُعدَّة للسكن بشكل أساسي بالإضافة للمساحات العامة، والخدمات كالمدارس والمستشفيات وبالمثل وُجِّهَت الاتهامات إلى التداعيات التي يمكن أن تنتج عن هذا المشروع لتحقيق التغيير الديمغرافي.

ومن خلال الواقع والتركيبة الاجتماعية السورية لا تتوافر في مشاريع التغيير الديموغرافي التي يُديرها النظام الأمني في “سورية المفيدة” مقوّمات الاستمرارية، والاستقرار ذلك أن القائمين عليها أقلية تُحيطهم امتدادات سكانيّة كبيرة من نسيج السكان القُدامى المُهجّرين الأمر الذي يجعل التغيّرات الديموغرافية التي نجح النظام في تحقيقها في أكثر من مكان خاضع لسيطرته مجرّدَ محاولات من المستبعد أن تستقرّ على الأمد التاريخي الطويل، وحتى المتوسط وتتحوّل إلى حقيقة ديموغرافية ثابتة.

يبدو أن الطريق الوحيد لإنقاذ سورية من مشاريع التقسيم التي تتهدّدها يجب أن يمرّ عبر الوصول إلى توافق وطني يعتمد على القطيعة مع الاستبداد والإرهاب والتطرّف بأشكاله كافة، وخطوة من هذا القبيل تتطلّب من النخب الوطنية السورية لدى كلّ الأطراف السياسية والمجتمعية تحمّل المسؤولية بكل إقدام وثبات والدخول في حوار وطني شامل يُغطي الجغرافية السورية بأسرها حوار يُركّز على نقاط التوافق، ويعمل على تفكيك نقاط الخلاف ويتعامل معها بعقلية وطنية إبداعية تتجاوز العقبات والإشكالات لمصلحة مستقبل سورية وأجيالها المقبلة.

قد يكون مثل هذا الطرح متأخرًا قليلًا أو كثيرًا أو بكلام أكثر دقة تعرّض للعرقلة من أصحاب الشعارات والمصالح الضيّقة والأحزاب والحركات المتأسلمة، لكنه يبقى المخرج الأكثر ضمانا" إذا أردنا الحفاظ على وطننا ليكون بجغرافيته الموحّدة وثرواته الظاهرة والخفيّة حاضنة لجميع السوريين من دون استثناء.