المختفون قسريًا... مأساة تُرهق الوطن

2022.08.30 | 19:41 دمشق

ابتزاز ذوي المعتقلين في سوريا يُكسب نظام الأسد ملايين الدولارات
+A
حجم الخط
-A

هادي البحرة(*)

 

يحتفل العالم اليوم باليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، وهو يوم اعتباري بروتوكولي بالنسبة لكثير من دول العالم، لكنّه بالنسبة للسوريين يوم مشؤوم، يوم يستذكرون فيه أهلهم وأحبابهم المختفين قسريًا في أقبيةٍ وسجونٍ وسراديبٍ مظلمةٍ يحشرهم فيها النظام السوري، ينتظرون دون كلل عودتهم ورؤيتهم، أو على الأقل الاطمئنان إلى أنهم على قيد الحياة ولم تبتلعهم المقابر الجماعية السرّية.

الاختفاء القسري أخطر أشكال انتهاكات حقوق الانسان قسوة ووحشية، ومرفوض وفق المعايير الأخلاقية والإنسانية، وجرّمته بشدّة القوانين الدولية كافة، والمنظمات الدولية منها منظمة العفو الدولية، ولجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا، والمحكمة الجنائية الدولية، كما جرمه القانون الإنساني الدولي، والعهد الدولي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، يُعتبر الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية، وجريمة حرب.

في سوريا اليوم - وفق أكثر الإحصائيات الحقوقية والتوثيقية تواضعًا - أكثر من مائة ألف من المختفين قسريًا، نحو 90% منهم على الأقل مختفون قسريًا على يد النظام السوري، وتطال التأثيرات الكارثية لهذا الاختفاء القسري ملايين السوريين، من أمهات وآباء وزوجات وأبناء وأخوة للمختفين، ينتظرون عودة أحبابهم الذين اختطفهم وغيبهم النظام السوري وميليشياته، وبعض العصابات والتنظيمات الإرهابية المنفلتة التي أفرزتها حرب النظام على شعبه.

ترتبط حالات الإخفاء القسري في سوريا غالبًا مع انتهاكات أخرى للحقوق الأساسية، كغياب المحاكمة والتعذيب وابتزاز أهالي الضحايا، وإساءة المعاملة والممارسات المهينة للكرامة، وصولًا إلى الإعدام سرًا، و"صور قيصر" خير شاهد، حيث سُرِّبت مطلع عام 2014 أكثر من 55 ألف صورة تُوثّق مقتل الآلاف من المختفين قسريًا في سجون النظام السوري تحت التعذيب، بينهم فتيان تتراوح أعمارهم بين 12 و14 سنة، ونساء وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 سنة.

أي معتقل على يد النظام السوري قد يتحوّل بسهولة وبساطة إلى مختف قسريًا، حيث لا يُحترم القانون عند الاحتجاز، ولا يتم وفق مذكرات قضائية، ويحدث فوق القانون، ودون إعلان أسباب الاعتقال، وغالبًا لا تُعرف الجهة التي اعتقلته، ولا يُسمح لذويه أن يسالوا عنه، كما لا يحق لأي محام أن يدافع عنه، كما تستسهل السلطات إنكار اعتقاله أو سجنة لديها، ويدخل الضحايا في متاهة لا مخرج منه.

إن قيام النظام السوري وبعض المجموعات المسلحة والتنظيمات المُصنّفة إرهابية، باعتقال من يعارضونهم وإخفائهم، بمن فيهم المحتجون السلميون والمدافعون عن حقوق الانسان، والأطباء والإعلاميون والمحامون والعاملون في مجالات الإغاثة الإنسانية، وتعذيبهم وإساءة معاملتهم، ومنع أقاربهم من رؤيتهم، وحرمانهم من المحاكمات، هو جريمة حرب لا جدال فيها، بنظر المجتمع الدولي وبتأكيد من قوانينه.

وفق الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 كانون الأول/ ديسمبر عام 2010 في قرارها رقم 133/ 47، هناك معايير أساسية لتشخيص حالات الاختفاء القسري، وهي "الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية الذي يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون".

كذلك، وفق نفس الاتفاقية "لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري"، وتدعو بشدّة إلى "التحقيق في أفعال الاختفاء القسري وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة".

هذه القضية اللا إنسانية ليست وليدة السنوات العشر الأخيرة، فللنظام السوري تاريخ طويل مع الاختفاء القسري الممنهج، منذ أن فُرض قانون الطوارئ عام 1963، حيث اختفى ما يقرب من 20 ألف مواطن سوري في الثمانينات، معظمهم من مدينة حماة، كما اختفى عدد غير معروف من السوريين والفلسطينيون واللبنانيون في سجن تدمر وغيره من السجون، وصولًا إلى اختفاء أعداد هائلة من السوريين دون أثر خلال السنوات العشر الأخيرة بعد انطلاق الاحتجاجات السلمية في آذار/ مارس 2011، وما زال مصير كل هؤلاء مجهولًا رغم كل المطالبات والقرارات الدولية.

لأنه ملف يؤرق النظام ويُدينه، بسبب حجمه وأبعاده ولا إنسانيته، وسيخضعه للمساءلة والمحاسبة، لهذا رفض التعاطي والتعامل الإيجابي معه، ويعتقد أن ملف المعتقلين والمختفين قسريًا هو ورقة مساومة وضغط في المباحثات السياسية، وهو مخطئ كليًا، فهذا الملف هو ملف إنساني ووطني وحقوقي فوق تفاوضي، لا ينتظر إنجاز الحل السياسي بل يسبقه، وذلك وفق قرارات مؤتمر جنيف لعام 2012 وتوصياته، ووفق القرار الأممي 2254 لعام 2015، الذي ركز على قضية المعتقلين والمختفين قسريًا لخطورته، وتم إدراجه في مقدّمة الإجراءات اللازمة لبناء الثقة والتي تسبق وتمهد لحزمة بنود الحل السياسي للقضية السوريا.

كثيرة هي القرارات الأممية، والإدانات الدولية، التي طالبت بالإفراج عن السوريين المحتجزين بصورة غير قانونية، وعن كشف مصير المختفين قسريًا، بيد أنّه لم يُتَّخذ أيّ إجراء لوقف النزيف الناتج عن هذا الملف، ولمحاسبة المجرمين والمتورطين والقتلة، مع أن قضية المختفين قسرًا هي قضية بالغة الأهمية للمفاوضات السياسية وتمهيد فوق تفاوضي إلزامي يُمهّد للحل السياسي، وضرورة لابد منها لتحقيق العدالة الانتقالية.

ملف المختفين قسريًا هو ملف من أعقد الملفات وأكثرها مأساوية، ووفق ما وصفته الأمم المتحدة بأنه "صدمة وطنية" أثّرت على حياة ملايين السوريين من ذوي المختفين والمعتقلين، وهناك من يعمل بجد وإخلاص لتوثيق كل المختفين والمغيبين قسريًا، ومن بينهم منظمات حقوقية سوريا ودولية، فضلًا عن قوى الثورة والمعارضة التي تُطالب في كل المحافل بإنشاء محكمة خاصة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا لمحاكمة الجلادين على جرائمهم، وكذلك تطالب منظمة العفو الدولية، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن ارتكاب الجرائم في سوريا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر تحاول لعب دور أساسي في الافراج عن المعتقلين، وغيرها، مهما كانت هذه العملية صعبة ومعقدة وشاقة، لن يكلّ السوريون بكافة أطيافهم، سياسيين وحقوقيين وإعلاميين، وقوى حرية وسلام، في السعي لإبقاء الضوء مسلطًا على هذا الملف، وحثّ المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمفوض السامي لحقوق الإنسان، للضغط على النظام السوري وحلفائه من أجل الكشف عن مصير المغيّبين قسريًا، وإفراغ السجون والمعتقلات من الأبرياء، والمضي بالحل السياسي الذي يستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015).

لا يمكن التوصل إلى أي حل سياسي قابل للاستدامة دون إطلاق سراح المعتقلين، ومعرفة مصير المختفين والمغيّبين قسريًا، ولاحقًا وضع الأرضية القانونية التي تُمهّد لمحاسبة ومحاكمة الجناة والمجرمين على ما فعلوه بحق عشرات الآلاف من السوريين الذين غيبوا قسريًا.

لن يقبل السوريون بقاء ونجاة من قَتَلَ وأخفى أحبتهم في سجونه، فالحق لا يضيع طالما ورائه مُطالب، ولا يسقط بمرور الزمن، والعدالة ستُطبّق عاجلًا أم آجلًا، ودموع مئات آلاف الأمهات لن تَرحم وستُطارد المجرمين حتى في أحلامهم، إلى أن يتحقق العدل والقصاص.

 

(*) الرئيس المشترك للجنة الدستورية السورية