المحللون السياسيون: حبالهم وعصيهم

2022.04.23 | 05:58 دمشق

ad5296410aafe0949f2e0c4b.jpg
+A
حجم الخط
-A

يمكن مقارنة المحلل السياسي المعاصر بالشاعر القديم، وهو إلى المحامي والمدعي العام أقرب، والمحاماة مهنة من اختراع الرومان، وكانت غايتها تحويل المحكمة إلى ساحة صراع وجباية، وأحيانًا إلى عرض مشاهدة، والرومان يحبون العروض، وقد غزوا نصف العالم. المدعي العام يستذئب ويطالب بأقسى العقوبة للمتهم، والمحامي يطالب بالبراءة التامة، باحثًا في ثغرات القانون عن فرجة ينقذ بها موكله من الموت.

مضى عقد على انطلاق الربيع العربي، الذي أظهر مواهب سياسية، فبرز محللون سياسيون كثر أمسوا مشاهير وأعلاما، وما لبث أن أفل نجم أكثرهم بسرعة، حتى إذا ظهر أحدهم في مناسبة ما، كان أشبه بعلبة كونسروة أو عقب سيجارة دُخن فلترها، اختفى أكثرهم من العار.

أصبحت مهنة التحليل السياسي طمأنة للموالين والتابعين وأبناء القبيلة السياسية ومواساتهم، أو مداواة لأرواحهم بسحر الكلمات، وتضليل الحاضر لا تفسيره

اشتهر محللون بالطلاقة من غير بلاغة أو فصاحة مثل شريف شحادة السوري، وهو أفضل منافحي النظام في الفضائيات العربية، وكذلك عماد فوزي شعيبي، الذي برز إبان تولية بشار الأسد، وقيل إن سبب شهرته هو جمال عبارته وطلاوة لسانه، وسمعت بعضًا من تحليلاته المتأنقة المجتلبة من دراسة الهندسة، فوجدت عبارة الماكنة السياسية. ثم دارت الأيام، وأزرى كثرة الظهور وارتفاع منسوب الكذب بكثير منهم، مثل ناصر قنديل، الذي لم يُرَ أكثر منه ذرابة وطلاقة على الشاشات العربية الكبيرة والمحلية، واختفى كأنه كومة تبن واحترقت، والمحلل رجل عارف بالقوانين والتواريخ، وعلاقات الأمم، وسير الشخصيات السياسية، وأيام العرب والعالم، ومطّلع على الكتب والمذكرات السياسية. وغاية التحليل تفسير الحاضر ومعرفة أخبار المستقبل، ولا يمكن ذلك من غير معرفة بالماضي. وأصبحت مهنة التحليل السياسي طمأنة للموالين والتابعين وأبناء القبيلة السياسية ومواساتهم، أو مداواة لأرواحهم بسحر الكلمات، وتضليل الحاضر لا تفسيره.

أمسى محللو الوقائع السياسية، ومفسرو الثورات العربية أشبه بالكهّان لاستعمالهم ألفاظًا غريبة، مثل المربعات والدوائر لدى خالد العبود. وقرأت لأبي منصور الثعالبي كتابًا عنوانه "تحسين القبح وتقبيح الحسن"، فذكر في مقدمة الكتاب أنه طرق فنًّا لم يفطن له أحد. والحق إن كتابه تدوير المعاني سبق أن كتب عنها. ثم أفرد لها كتابًا، وإن عمل المحللين الموظفين لدى الأنظمة هو تحسين مقابح النظام، وتقبيح محاسن الشعب، وقد صارت مهنة التحليل السياسي رائجة بعد أن كثرت الفضائيات، وأقصى غايات المحلل السياسي هي تجميل مباشع الرئيس والتبشير بالمستقبل المنير، وتقبيح جمائل الخصوم.

يقول فن التحليل: إن لكل خبر ظاهرًا وباطنًا، وإن طريقة تشتيت الحدث واحدة من غايات التحليل السياسي العربي، كالحديث عن تكاثر أنثى الغول، وموت القروش والدلافين على السواحل انتحارًا، وهناك طرق أخرى، مثل التخويف والترعيب، وطريقة تكبير الصغائر، وتعظيم النوافل، بالاحتفال بزيارة وفد لمجلس الشعب للإشراف على انتخابات دولة بعيدة في القطب الشمالي، أو تعظيم زيارة الأسد لدولة الإمارات من الباب الخلفي، كأنها حدث كونيّ، أو بتصغير العظائم. وقد اختفى محللون كثر خجلًا من أمسهم المنصرم، مثل علي عقلة عرسان الذي لم يعد يظهر قط، ومثله عصام خليل الذي استنفد ألعابه الخفية، ومات الأرنب الذي يظهره من قبعته، وكان له تحليل شهير يقول: إن الثورة المصرية كانت لإلغاء كامب ديفيد، وإنّ الثورة لا تكون حقيقةً باسمها إلا إذا اجتمع الثوار في ساحة مثل ساحة التحرير في العاصمة، وأسقطوا النظام في أسبوعين.

رأت الشعوب العربية عجائب في صندوق الدنيا العربي، مثل تهديد المذيع للمشاهدين، كما يفعل أحمد موسى في مصر، ونزار الفرا وزملاؤه في سوريا

واشتغل الشيوخ في المهنة بسلاح الفتوى أو العظة أو التأويل الديني، واجتهدوا في تحسين المقابح، وتقبيح المحاسن بالآيات والأحاديث، حتى بلغ كثير منهم مرحلة التهريج، مثال ذلك تفسير مفتي سوريا الوسيم، سورة التين، ذلك التفسير الذي جعله أضحوكة، فسقط.

هناك من يحامي عن النظام بآلة أخرى غير اللسان، مثل حسناوات الشاشة بحسنهن، مثل سلاف فواخرجي ورغدة نعناع، فللجمال بلاغته.

رأت الشعوب العربية عجائب في صندوق الدنيا العربي، مثل تهديد المذيع للمشاهدين، كما يفعل أحمد موسى في مصر، ونزار الفرا وزملاؤه في سوريا. رأت الشعوب بعض المذيعين في ثياب الإحرام، كأحمد موسى، ومدح أكثرهم فوائد الجوع والصوم، وأثنوا على العودة إلى الفانوس وضوء القمر لانقطاع التيار الكهربائي، والتدفئة على جفت الزيتون لانقطاع الوقود، وهو وقود فاخر وثمين وعطر.

لقد كانت حبالا قصيرة وعصيّا كسيرة افترسها تنين الواقع لا براعة الخصم ولا عدالة الحكم. والتحليلات التي اجتهدوا فيها ليست سوى كومة من الأنقاض.