المحكمة الدولية ولبنان: النوم في حضن الدب

2018.09.16 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

الأدلة والقرائن والوقائع المثبتة التي كشفها فريق الادعاء في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي أُنشئت للنظر في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات السياسية التي أعقبتها، غير قابلة للشك أو الطعن. أدلة دامغة ومتينة وصلبة، كلها تفيد أن أعضاء محترفين في "حزب الله"، من ذوي الخبرة الأمنية والمخابراتية، قاموا بتنفيذ عملية الاغتيال. وتشير مرافعات الادعاء إلى تنسيق فريق التنفيذ والتخطيط مع قادة سياسيين في الحزب المذكور، بالإضافة إلى التنسيق مع كبار الضباط في جهاز المخابرات السورية، وأولهم رستم غزالي.

طوال الأسبوع المنصرم، أي أثناء بث وقائع المحكمة الدولية ومرافعاتها، حلّ الصمت المطبق على "حزب الله"، وتجاهل النظام السوري أخبار تلك المحكمة، رغم خطورة الاتهامات التي تطالهما بأدلة قوية. وأغلب الظن أن الصمت والتجاهل مردّهما أن الغريق لن يخاف من البلل. والموغل بالدم السوري (واللبناني) طوال عقود، والمتهم بتدمير أركان الدول والمجتمعات وشن حروب التطهير والإبادة والتهجير القسري لملايين الناس، لن تحرجه جريمة واحدة، ولو كانت بحجم اغتيال شخصية بالغة النفوذ والتأثير كالرئيس رفيق الحريري.

سلوك النظام السوري بمواجهة الإدانة والاتهام كما بمواجهة الثورة عليه، هو المزيد من الحرب المفتوحة والشاملة، أي الإصرار على الجريمة

وإذا كان سلوك النظام السوري بمواجهة الإدانة والاتهام كما بمواجهة الثورة عليه، هو المزيد من الحرب المفتوحة والشاملة، أي الإصرار على الجريمة، فإن سلوك "حزب الله" في لبنان يبدو أكثر تعقيداً وغموضاً. والأصح القول، أن مفاعيل الأحكام النهائية التي ستصدر عن المحكمة، قد لا تضيف الكثير على السجل الأسود لنظام بشار الأسد وعصابته، الذي يدرك أنه قد يواجه مستقبلاً ما هو أسوأ من تهمة اغتيال الحريري، أي محاكم الجرائم ضد الإنسانية ومحاكم جرائم الحرب.. أما فيما يخص مفاعيل المحكمة على "حزب الله" في الداخل اللبناني، فهي قصة أخرى وشديدة الخطورة. فمن الصعب جداً، على المستويين الشعبي والرسمي، تجاهل المحكمة وقراراتها وكأنها لم تكن. الدولة اللبنانية شريكة أصيلة في إنشاء المحكمة وفي تمويلها، ويعمل فيها قضاة لبنانيون، وبالتالي فالدولة ملزمة أمام المجتمع الدولي والأمم المتحدة (أُنشئت المحكمة بقرار من مجلس الأمن)، وأمام مواطنيها خصوصاً، بالتصرف وفق ما تمليه هذه المحكمة من حقائق وأحكام وقرارات.

سيكون لهذا الأمر أثر بالغ على دور "حزب الله" كشريك في أي حكومة يتم تأليفها. ولأن الصيغة السياسية المعمول بها في هذا البلد تقول لا يمكن إنتاج سلطة تنفيذية بلا هذا الحزب، فقد يجد لبنان نفسه أمام صيغة معاكسة: لا يمكن وجود ممثل عن "حزب الله" في السلطة.

عملياً، ووفق هكذا معطيات، قد يصبح تشكيل حكومة لبنانية أمراً متعذراً في المدى المنظور، خصوصاً أن "حزب الله" يعتبر وجوده في الحكومة ضرورة مصيرية، كي لا يُستفرد به دون لبنان فتسهل محاصرته وخنقه كجماعة مسلحة مارقة، وهو المستهدف حالياً بضغوط متزايدة أميركياً وإسرائيلياً. بالمقابل، لا يسع الأفرقاء اللبنانيون التغاضي عن تداعيات المحكمة والاستمرار في تسويق المقولة المهترئة عن "احتواء الحزب" داخل الدولة تحت شعار الحفاظ على السلم الأهلي والاستقرار. فالتفهم العربي والأوروبي والأميركي لحساسية الوضع اللبناني بات أقل من السابق، والتوجه نحو محاصرة إيران يؤدي تلقائياً إلى استهداف ذراعها الأقوى في المنطقة، أي "حزب الله".

المعاناة الفعلية يعيشها خصوم "حزب الله" من الأحزاب والزعماء والطوائف اللبنانية، فهؤلاء لا يسعهم "مواجهة" الحزب والانزلاق إلى حرب أهلية خاسرة حتماً ومدمرة، ولا يمكنهم "عزل" جماعة تؤيدها وتواليها طائفة كبرى وأساسية في التكوين اللبناني، أي الشيعة، ولا باستطاعتهم الانقياد والتسليم بمصير البلد وجماعاته لسياسة "حزب الله" ومشيئته، ما يعني وقوع لبنان كلياً في الحفرة الخامنئية – الأسدية.

لا يسع الأفرقاء اللبنانيون التغاضي عن تداعيات المحكمة والاستمرار في تسويق المقولة المهترئة عن "احتواء الحزب" داخل الدولة تحت شعار الحفاظ على السلم الأهلي والاستقرار

بهذا المعنى، يواجه الرئيس سعد الحريري حالياً المعضلة ذاتها التي واجهها والده، ودفع حياته ثمناً لها في نهاية المطاف. فرفيق الحريري ابتدأ مشروعه بإعادة الإعمار والبناء بعد انتهاء الحروب الملبننة، وفق قاعدة بناء الدولة وإعادة بسط سلطتها الشرعية. ولتحقيق ذلك، رضخ لشرطين أساسيين: بقاء وصاية النظام السوري على البلد، واستثناء ميليشيا "حزب الله" من بند حل الميليشيات وتسليم السلاح للدولة حسب "اتفاق الطائف"، بوصفها "مقاومة" حتى تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي.

حوّل الحريري الأب بحنكته، هذا الرضوخ إلى حقيقة سياسية مقبولة داخلياً وعربياً ودولياً، فصاغ سياسة لبنانية تجاه "الوصاية" بوصفها ضمانة مؤقتة لعدم تجدد الحرب ومنع الفوضى، إلى حين استتباب أركان الدولة وأبنيتها الأمنية والإدارية والسياسية. ثم إنه عبر ترتيبه بالاتفاق مع فرنسا والولايات المتحدة ما سمي "تفاهم نيسان" (1996)، منح لأول مرة شرعية دولية لسلاح "حزب الله" بوصفه "مقاومة وطنية" تنتفي الحاجة إليها حال انتهاء الاحتلال. هذه الحنكة، في جعل "الوصاية" و"المقاومة" مؤقتتين ومحصورتين بمهمة محددة لكل منهما، هو بالضبط ما أثار ضغينة النظام الأسدي و"حزب الله" (وإيران) عليه. فالمشروع السوري – الإيراني في إنشاء "محور الممانعة" بكل أبعاده الجيوسياسية لا يتواءم إطلاقاً مع مشروع رفيق الحريري وتصوره للبنان وأدواره ووظائفه ووجهته. لبنان بصلاته مع عالمه العربي ومع الغرب هو ليس لبنان الذي تريده إيران و"سوريا الأسد".

هذه الحنكة، في جعل "الوصاية" و"المقاومة" مؤقتتين ومحصورتين بمهمة محددة لكل منهما، هو بالضبط ما أثار ضغينة النظام الأسدي و"حزب الله" (وإيران) عليه

كانت مسايرة رفيق الحريري لـ “فائض القوة" (الوصاية والمقاومة) مهمة شاقة ومكلفة سياسياً واقتصادياً، لكنها باتت مهمة شبه مستحيلة، حين وقع استحقاق الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وإعلان الأمم المتحدة عن أن إسرائيل قامت بالتنفيذ الكامل للقرار الدولي 425. في تلك اللحظة، فقد "حزب الله" شرعية المقاومة، وانتفت ذريعتها، وبات أمام استحقاق بند حل الميليشيات وتسليم السلاح للجيش اللبناني. وأيضاً فقدت "الوصاية" حجتها بعدم انسحاب الجيش السوري إلى حين انسحاب الجيش الإسرائيلي. ورغم صراخ قادة الحزب والمسؤليين السوريين ونعتهم للانسحاب الإسرائيلي أنه "انسحاب أحادي الجانب"! و"مؤامرة"! (تصريح فاروق الشرع نيسان 2000)، فقد شعر الحريري أن لبنان لديه الفرصة الذهبية ليعود بلداً طبيعياً بلا احتلال ولا وصاية ولا مليشيات. فيما الطوائف والجماعات اللبنانية بدأت بالمطالبة في إعادة النظر الشاملة بالوجود العسكري السوري وباستثنائية سلاح "حزب الله".

هكذا تحول رفيق الحريري، بشيء من الإرادة الذاتية وبشيء من إرادة المعارضة الإسلامية – المسيحية الوليدة حينها، إلى زعامة رمزية للوطنية اللبنانية الناشئة حول مبدأ الحرية والسيادة والاستقلال. لقد فرض الواقع على رفيق الحريري أن ينهي سياسة "مسايرة"، ولو على مضض وبكثير من الحذر والتردد والخوف. فقد أدرك أنه تحول إلى "هدف".

انتهت "المواجهة" بين رفيق الحريري والمعارضة اللبنانية من جهة، و"حزب الله" والنظام السوري من جهة ثانية بزلزال 14 شباط 2004، وتفجير موكب الرئيس الحريري بطنين من المتفجرات. وأثبت مسلسل الاغتيالات الأخرى، كما وقائع "انتفاضة الاستقلال" (2005) ثم "حرب تموز" (2006)، وصولاً إلى غزوة "حزب الله" لغرب بيروت وبعض مناطق الجبل الدرزي (2008) بالتزامن مع تعطيل الدولة - حكومة ومجلس نواب ورئاسة جمهورية- أن لا سبيل لمواجهة "حزب الله" من دون الوقوع في حرب أهلية لا أحد قادر عليها ولا أحد يرغب بها.

انتهت "المواجهة" بين رفيق الحريري والمعارضة اللبنانية من جهة، و"حزب الله" والنظام السوري من جهة ثانية بزلزال 14 شباط 2004، وتفجير موكب الرئيس الحريري بطنين من المتفجرات

اليوم، يكون الرئيس سعد الحريري (ومعه وليد جنبلاط وسمير جعجع) قد أمضى عشر سنوات من سياسة "المسايرة" (اجتراح التسويات وتقديم التنازلات)، تفادياً لانفجار البلد وانهياره. لكن، استحقاق المحكمة الدولية، بالتزامن مع استحقاقات دولية ضاغطة على لبنان الرسمي، بالإضافة إلى المخاطر الداهمة التي تهدد النظام الاقتصادي والمالي (وكلها مرتبطة بدور "حزب الله" وأعماله)، تجعل تلك "المسايرة" أشبه بالانتحار البطيء.

بالمحصلة، حتى ولو تحمّل سعد الحريري، وسائر اللبنانيين ثقل "الحقيقة" كما أظهرتها المحكمة، فإنهم لا يحتملون وطأة "العدالة" ومتطلباتها. فالعيش اللبناني المشترك والسلم الأهلي الثمين، بوجود "حزب الله"، هو كالنوم في أحضان الدب.