المثقف: من الالتزام إلى الحياد

2021.04.04 | 06:53 دمشق

images.jpg
+A
حجم الخط
-A

يكمل "الربيع العربي" عقده الأول هذه الأيام. ومع كل حديث عن الإخفاقات التي شهدناها في العشرية الماضية، يبرز دائما السؤال المتكرر عن أسباب غياب المثقف عن لعب دور واضح في المشهد السياسي والفكري في الربيع العربي، وهو سؤال ينطوي على حقيقتين مضمرتين، أولاهما أن البشر ينتظرون دائما من المثقف موقفا أخلاقيا، وأن يكون له رأي واضح، بحكم قدرته على استشراف المستقبل، وثانيتهما تحمل نوعا من الإدانة لموقف كثير من المثقفين من الربيع العربي.

لقد خرجت الجماهير إلى الشوارع بتلقائية وعفوية، لا يحركها حزب سياسي، ولا تقودها "طليعة ثورية"، مطالبة بتغيير الأوضاع المزرية التي وصل إليها عالمنا العربي، دون أن يكون للمثقفين ذلك الدور الذي يفترض بهم القيام به في التوعية والتوجيه، وابتكار الحلول والأفكار، مثلما غاب المثقفون غيابا شبه كلي في المرحلة التي تلت بركان الثورات والحركات الاحتجاجية، لا بل إن نسبة لا يستهان بها من المثقفين وقفت مع الأنظمة القمعية، ونظَّرَتْ في مرحلة تالية للثورات المضادة.

هذا الدور "السلبي" للمثقف العربي يدفعنا إلى البحث عن جذور هذه العلة التي أصابت المثقف العربي، وجعلته يقف في كثير من الأحيان إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية، مسوغا لها أفعالها وانتهاكاتها الشديدة. إذا نحينا بعض الحالات الخاصة كالحالة السورية التي أسهم فيها البعد الطائفي بنصيب وافر في وقوف عدد كبير من المثقفين مع النظام، فإن السؤال الموضوعي الملح يبقى قائما، وذلك حين نرى أن هذا الانحياز للأنظمة ظاهرة تكاد تكون عامة في الحياة الثقافية العربية. فلماذا غابت أو توارت فكرة الالتزام التي كانت واحدة من أهم الأفكار التي حملها المثقفون العرب في منتصف القرن الماضي؟ ولماذا تحولت إلى النقيض، أي إلى الالتزام بخطاب السلطة لدى جزء كبير من المثقفين؟

قد كان مثقفنا العربي، فقيها وعالم كلام وفيلسوفا، مثقف سلطة وقف إلى جانبها، مدافعا عن الحق الذي تمثله الدولة التي ينتمي إليها

ليس بوسع المنقب في تراثنا العثور على ما يمكن أن نسميه "الالتزام"، أو "المثقف الملتزم"، فإذا استثنينا شعراء الخوارج ومعتزلة العصر الأموي جانبا، فلن نصادف في تراثنا إرهاصات لفكرة الالتزام ذاتها، وحتى محنة ابن حنبل، ونكبة ابن رشد، كانتا حدثين عابرين في العلاقة بين المثقف والسلطة في العصر الوسيط. لقد كان مثقفنا العربي، فقيها وعالم كلام وفيلسوفا، مثقف سلطة وقف إلى جانبها، مدافعا عن الحق الذي تمثله الدولة التي ينتمي إليها. ولهذا كانت وظيفة المثقف إنتاج المعرفة والأفكار، وتسويغ مشروع السلطة وإعطائه الصبغة القانونية اللازمة، بتأويل النصوص على نحو يرضي جانب السلطة ذاتها، وهو أمر أدى إلى كسر عنق تلك النصوص في أحيان كثيرة.

ظل المثقف يمارس دوره التقليدي حتى بداية احتكاكنا بالعالم الأوروبي، فمع هذا الاصطدام العنيف تصدعت المسلمات التي انبنت عليها علاقة المثقف بالسلطة، ففي القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان السؤال المطروح على الساحة الثقافية هو الوسيلة التي يمكن بها اللحاق بركب الحضارة التي ظهر أن مسافة طويلة تفصلنا عنها. وهو السؤال الذي صاغه شكيب أرسلان بالصيغة التي مازال معروفا بها: "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟". منذ تلك اللحظة افترقت رؤية المثقف عن رؤية السلطة على نحو من الأنحاء. لقد بدأ المثقف يرى أن وظيفته وظيفة حضارية في المقام الأول، هدفها الارتقاء أو النهوض بالأمة من تخلفها الحضاري إلى مصاف اللحظة الحضارية التي تمثلها أوروبا. ولكن لم يكن مطروحا آنذاك.

من عوامل تأخر فكرة الالتزام، أي: الوظيفة الاجتماعية للمثقف، في الولوج إلى ثقافتنا أن اتصالنا بالعالم الأوروبي في المقام الأول جاء عبر الثقافة الفرنسية، بتركيزها الشديد على قضايا القومية، والعلمانية، والفصل بين الدين والدولة، وحقوق الإنسان، وتحرير المرأة...إلخ. وهي قضايا حددت مسار النقاش لعقود طويلة، تلت لحظة الاحتكاك بالعالم الغربي، وأسهمت تلك الجذور الليبرالية في نفور مثقفينا من فكرة الحكم الشمولي التي تبشر بها التيارات التي تتبنى فكرة الالتزام، يضاف إليها أننا كنا ننفض عن كاهلنا تبعات قرون من الاستبداد السلطاني. وهذان الأمران من العوامل التي دفعت المثقفين إلى النفور مما كان يطلق عليه في تلك المرحلة الاشتراكية العالمية، فهي في نظرهم تيار سلطوي لا يختلف عن السلطة السياسية التي كانوا قد افترقوا عنها نوعا من الافتراق. ويتضح هذا الكره أن أيا من التيارات السياسية، في نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الحالي، لم يتبن الاشتراكية على خلاف التيارات الأخرى، كالجامعة الإسلامية والقومية العربية والتيار الليبرالي الوطني، والتي وجدت لها قاعدة شعبية وأنصارا لدى شرائح اجتماعية متعددة.

ولكن ازدياد احتكاكنا بالعالم الأوروبي، مترافقا مع بذور طبقة وسطى صاعدة، وانفتاحنا على أوروبا الأخرى التي بدت أكثر فهما لهواجسنا، أوروبا الاشتراكية التي نمت فيها فكرة الالتزام عبر حديث الماركسية عن الوظيفة الاجتماعية للمثقف، كل أولئك أدى إلى بروز ظاهرة المثقف العضوي بتعبير غرامشي.

ظهر الشكل الكلاسيكي من المثقف الملتزم مع حركات التحرر من الاستعمار، والمد القومي. وهي ظاهرة اتسعت على نحو أصبح فيه لكل تيار سياسي "مثقفوه الملتزمون" الذين تحولوا إلى دعاة في كثير من الأحيان، متخلين عن وظيفتهم في إنتاج المعرفة، إلى الدعاية الإيديولوجية الفجة. غير أن الإخفاقات المتتالية للدولة الوطنية على صعيد التنمية، وتحولها إلى دولة بوليسية قمعية، وعجزها عن تحقيق أي من الشعارات التي رفعتها إبان مرحلة النضال الوطني، كل ذلك أدى إلى عزلة المثقف، وتهميشه، ووصوله إلى القنوط واليأس. يضاف إلى ذلك استقطاب السلطة لجزء من المثقفين وتحويلهم إلى كائنات ورقية، مهمتها تسويغ عنف السلطة وفسادها، بمعنى العودة إلى الوظيفة القديمة للمثقف.

 لم تكن عزلة المثقف خاصة ببلادنا، فقد كانت ظاهرة عالمية، على الرغم من اختلاف أسبابها بين عالمنا العربي، وأوروبا التي تشكل النموذج الذي يثوي في لا وعينا الجمعي. فعلى مدى عقود متتالية، كان الأمل يحدو المثقفين في العالم الغربي الرأسمالي بإمكانية إحداث تغيير في مجتمعاتهم، ولكن في لحظة ما في أواسط القرن العشرين، تلاشى هذا الأمل نهائيا. فقد أثبتت الرأسمالية أنها قادرة على أن تتنبأ بالتحولات الاجتماعية، والقيام بالتغيير اللازم حتى قبل أن تجد تلك التحولات طريقها إلى عالم الواقع والفعل السياسي. هذه خلاصة رؤية ماركوزه لإنسانه ذي البعد الواحد. في هذه اللحظة أدرك المثقف عجزه عن إحداث التغيير الذي كان يُنَظِّر له، فسقطت بذلك وظيفته الاجتماعية، وبدأ مسيرة تحوله إلى "خبير"، يعرض رأيه التقني، بعيدا عن أي هم إيديولوجي، إلا هم تحقيق الربح للمؤسسة التي يعمل فيها.

قد تكرس انحسار دور المثقف، وصعد بدلا منه النجم الرياضي، والممثل التلفزيوني، ليحتل مساحة التأثير في الرأي العام

ازداد هذا الدور الحيادي رسوخا في أعقاب انهيار المعسكر الاشتراكي، وانكسار بقية الحلم الذي كان يمثله المعسكر الشرقي بوصفه نموذجا يسعى لتحقيق المساواة والعدالة بين البشر. وهو انهيار تجلى صداه في موسم هجرة اليساريين إلى الليبرالية.

 تلت موسم الهجرة ذاك "الثورة الإعلامية"، التي بدأت بالبث الفضائي، ووصلت إلى مرحلة الإنترنت. فمع هذه الثورة، تراجعت المادة المقروءة لصالح الصورة البصرية التي جاءت بفرسان جدد إلى الساحة: الإعلاميين، والممثلين، الرياضيين...إلخ. لقد تكرس انحسار دور المثقف، وصعد بدلا منه النجم الرياضي، والممثل التلفزيوني، ليحتل مساحة التأثير في الرأي العام.

إن واحدة من أهم إنجازات الثورات أنها تحيل كثيرا من الإنتاج الفكري إلى متحف تاريخ الفكر، وخصوصا ذلك النتاج الذي لا يجرؤ على كسر الحدود التي ترسمها الأنظمة القمعية للمثقفين. أما في حالتنا العربية فيبدو الأمر أكثر جذرية، فبحار الدماء التي سالت ستجعل من الصعب أن يجد نتاج كثير من المثقفين الذين ناصروا الأنظمة قراء في المستقبل القريب، وتلك هي لعمري إحدى أهم إنجازات الثورة على الصعيد الأخلاقي.