المال والاحتلال والصندوق الأسود

2019.09.23 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كَثُر الهرج والمرج مؤخرا داخل العائلة الأسدية – المخلوفية؛ على خلفيات مادية واستئثار بالقوة. فقيل إن أمير بيت مال الحكم "محمد مخلوف" – خال الرئيس، وضابط إيقاع العلاقة بين المالك الفعلي للمليارات وأدوات وواجهات التشغيل (حمشو وفوز وموز ...) غائب، لأسباب صحية؛ وإن ابنه بدأ يتهرب من دفع مصاريف الحرب والإتاوات لبوتين وعصابته؛ وقيل أيضا إن امبراطورية أخرى داخل القصر وبدعم بريطاني بدأت بالسعي لوضع اليد على الثروة تحسباً للنهاية المحتمة. وقيل أيضا إن جذر الاهتزاز بوتيني، حيث علم الأخير بذلك الخطر الداهم بتبعثر الثروة، فأراد أن تكون يده هي العليا بالاستئثار بالثورة الطائلة لأسباب اقتصادية روسية داخلية قد تودي بإمبراطوريته المنخورة سلفا.

معروف أنه يندر أن يعرف أحد ما يدور في الصندوق الأسود لآل الحكم الأسدي، ولكن وقائع الأرض والرائحة التي ملأت الأجواء السورية تشي بأن وراء الأكمة ما وراءها. وهنا بدأت التكهنات والتحليلات والتفسيرات. فهناك من لم يعتبرها جدية بحكم التماسك العائلي التاريخي النادر، والمصير الواحد لأهل الحكم، وخاصة في ظروف المحنة الحالية القائمة. وهناك من رآها جادة وحقيقية لاستشعار الجميع بدنو الأجل؛ ولا بد من القفز من المركب قبل غرقه النهائي ولهط أكبر ما يمكن من ثروة وقوة، إما لإعادة ترميم المركب أو للهروب بما تمكن من نهبه. وهناك فريق ثالث يرى أن سلطة الاستبداد تلعب أخبث أدوارها بنسج مسرحية تلتف عبرها على العقوبات الدولية التي تحل بمالها؛ وفي الوقت ذاته تقوم بخنق أو إلغاء بعض الوجوه التي انتفخت ماديا وغير ذلك، وتحميلها كل وسخ الفساد والعبث والتسبب بالحياة الكارثية للناس، الأمر الذي يطهّر رأس السلطة ويعيد إحياء العبارة المشهورة بأن " الرئيس رائع، ولكن من حوله فاسدون".

استنادا إلى أن هذا النظام لم يمر تاريخيا بما مر به وعليه هذه السنوات، ونظرا لأنه لم يعد يمتلك لا حاضره ولا مصيره؛ فمن المستحيل أن تكون هناك سيناروهات أو ألعاب أو ترتيبات مصيرها أن تطفو على السطح، وتسرع جدا بنهايته الحتمية. فلا بد من يد خارجية تتحكم بكل مايجري، ولأسبابها الخاصة. وهذه اليد والأسباب روسية بامتياز. فما أخذ بوتين سورية رهينة إلا لاستشعاره بأنها ستكون الورقة بل درة التاج التي تنقذ إمبراطوريته من انهيار داخلي محتم إن هو لم يسارع إلى تغطية ثغراته الداخلية القاتلة بوضع اليد على الغنيمة المليارية السورية.

معروف تاريخيا أن روسيا لا تسقط إلا من الداخل، أكان ذلك بالعهد الإمبراطوري أو العهد السوفييتي

ومعروف تاريخيا أن روسيا لا تسقط إلا من الداخل، أكان ذلك بالعهد الإمبراطوري أو العهد السوفييتي. فتلك الجغرافيا الواسعة المترامية، والظروف المناخية القاسية، وضعف سيطرة المركز على الأطراف البعيدة المتباعدة، والانهيار الاجتماعي والاقتصادي كفيلة بإسقاط روسيا دون حرب. من هنا يدرك بوتين أن ما يسد كل تلك الثغرات يكمن في العامل الاقتصادي والمالي تحديدا؛ فعندما كانت روسيا عفيّة اقتصاديا، هزمت نابليون؛ وعندما كانت العكس، هزمتها بولونيا، وهزمتها الحرب الباردة عندما موتتها اقتصاديا.

وبالعودة إلى همروجة الاهتزاز في الصندوق الأسود الحاكم في سوريا، فإن ما تقدّم يشير إلى أن المسألة ليست ملياري دولار يطلبها بوتين؛ فهذه لا تغني ولا تسمن بالنسبة لبوتين، لأن عينه على مليارات راكمها الصندوق الأسود على مدار خمسة عقود، ومليارات قادمة تحملها عودة اللاجئين السوريين وإعادة إعمار ما دمرته طائراته التي لا بد أنه كان يحسب أجرها بالدولار. ولا بد يشغله أيضا استعادة ما وضعت إيران يدها عليه. وكل هذا من أجل سد الثغرة الاقتصادية الهائلة التي تولّد له تهتكاً اجتماعياً سيأتي على إمبراطورية سقطت تاريخيا، لهذا السبب بالذات.

بوتين لن يتمكن من تحمل إيران شريكا في هذه الغنيمة؛ ولا يرى في رامي مخلوف أو حتى في بشار الأسد إلا أدوات تيسر له امتلاك الغنيمة. إن منافسه الأساس هو أمريكا؛ وشريكه المحتمل ليساعده، حتى على مواجهة أمريكا، ليس إلا إسرائيل. ومن هنا نرى حماسه لإسرائيل يتجاوز إلى حد ما الحماس الأمريكي تجاه ربيبتها التاريخية.

الضحية الأساس في كل تلك المعادلة ليس إلا الشعب السوري الذي يرزح الآن تحت نير احتلال جديد، ومن نوع آخر. إنه احتلال مافيوي؛ احتلال لا يعيش إلا بموته. ملعون ذلك الصندوق الأسود الذي قد يجعل السوريين يترحمون حتى عليه؛ فهو على الأقل ترك بقايا من سوريا التي يعرفون.

والآن لم يبق أمامهم إلا مقاومة الاحتلال أو التهيئة لخلاص الأجيال القادمة منه. ولكن يبق الأمل الوحيد للسوريين، في خضم كل ذلك، أن بوتين الذي حمى منظومة الاستبداد عبر الفيتو كي يستخدمها أداة لتحقيق أهدافه أن يفشل ليس فقط بأن يحمي تلك الطغمة من ملفات إجرامية تراكمت، وبدأت تتحرك؛ بل أن لا يتمكن حتى من حماية نفسه من جرائم ارتكبها في سوريا وغيرها. إنه التسابق مع الزمن: أن ينجح بسد ثغراته بسرعة، أو يهوي. والأرجح أن يكون المصير الهاوية؛ ففي هذه الدنيا ميزان.