الليرة التركية في صعود.. هل هو النموذج الاقتصادي الجديد؟

2021.12.21 | 12:19 دمشق

allyrt_altrkyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

كسبت الليرة التركية منذ أن أعلن الرئيس أردوغان عن إجراءاته الجديدة أكثر من 25% في سعر صرفها. كانت الليرة تتداول بنحو 18 ليرة للدولار صباح يوم الإثنين، قبل حديث أردوغان، ارتفعت بعد ذلك بحيث وصلت في صعودها صباح يوم الثلاثاء إلى نحو 13 ليرة للدولار. ويأتي ذلك في إطار الحديث عن نموذج اقتصادي تركي جديد يعاكس النظرية الاقتصادية. نموذج يراهن على الإفراط في تخفيض الفائدة وسط تضخم مرتفع من أجل تغذية النمو الاقتصادي. هل كسب أردوغان المعركة الاقتصادية، وآن لعلم الاقتصاد أن يعترف بقصوره النظري؟

     لا شك في أنه من المبكر الحكم على الإجراءات الحالية من نتائجها المباشرة، والاستناد إليها للدفاع عن صوابية "النموذج التركي" أو عدم صوابه. لنستعرض الإجراءات التي تم الإعلان عنها قبل تخمين أثرها في سياق اتجاهات سير الاقتصاد التركي في المستقبل. وأعلن يوم الإثنين عن الإجراءات الآتية:

  • سيتم تعويض خسائر المودعين بالليرة التركية نتيجة تقلبات سعر الصرف.
  • ستتيح الحكومة عقود عملة آجل للمصدرين من أجل حمايتهم من تقلبات سعر الصرف.
  • ليس لدى الحكومة النية في التخلي عن اقتصاد السوق ونظام الصرف.
  • وإجراءات مالية أخرى.

هل الإجراءات السابقة هي التي أدت إلى هذا الصعود في الليرة؟ لا شك في أن عاملا واحدا لا يفسر كل شيء، ويمكن أن نعيد ذلك إلى عدة عوامل:

العامل الأول: هو أن الصعود السريع كان قبله هبوط كبير، وحركة الأسواق بشكل عام هي على شكل أمواج وليس خطوطاً، سواء كان الاتجاه صاعداً أم هابطاً. وبعد كل عملية صعود أو هبوط، تتوقف الأسواق وتتراجع لالتقاط الأنفاس والقيام بعمليات جني أرباح، أي بيع العملة الصاعدة (الدولار مثلا) لتحقيق أرباح من الصعود.

العامل الثاني: هي عمليات شراء الليرة التركية التي تمت بنحو مليار دولار، التي من غير الواضح من الجهة التي قامت بذلك (حركة سوق أم صفقة ما)، لكنها تركت أثرها على السوق. فقد أعلن رئيس جمعية المصارف التركية أنه تم بيع نحو مليار دولار في السوق، وهناك حسابات أشارت إلى تحويل ما بين 1- 1.5 مليار من المدخرات إلى الليرة التركية.

العامل الثالث: مفعول الإجراءات التي أعلن عنها أردوغان أعطت بعض الاطمئنان لبعض المودعين والمستثمرين بالليرة التركية، مما خفف بعض الضغط على الليرة التركية.

ما هي الآفاق المستقبلية لهذه الإجراءات؟ بالتأكيد من المبكر إعطاء حكم قطعي على آثار هذه الإجراءات قبل إعلان عن التفاصيل التنفيذية والانتظار لبعض الوقت. لكن يمكن أن نتوقع اتجاهات الآثار الممكنة لتلك الإجراءات في العموم.

     لا بد من أن نثبت نقطة مفادها أن اقتصاد تركيا ليست اقتصاداً ضعيفاً، فهو من بين أكبر عشرين اقتصاداً في العالم، وهو اقتصاد متنوع ويمتلك العديد من المزايا، وتعتبر تركيا من الدول الناشئة التي تمتلك إمكانية الصعود لدولة متقدمة. لكن الاقتصاد التركي يعاني من نقاط ضعف، يجب التعامل معها بحكمة، والتي يمكن جذرها في انخفاض إنتاجية العامل التركي، ومن أعراضها انخفاض معدل الادخار والاعتماد الكبير على التمويل الخارجي للنمو الاقتصادي.

    بالنسبة لعملية تعويض المودعين بالليرة التركية عن خسائر هبوط الليرة التركية فإن هذا يعني نوعا من تثبيت سعر الصرف لكن بطريقة غير مباشرة، حيث إنه بدلا من قيام الحكومة بالتدخل في سوق الصرف الأجنبي وتأمين الاحتياجات من العملة الأجنبية، ستعوض المودعين عن فرق الأسعار من الخزينة (كما يتوقع)، وهو ما يمكن تسميته بأنه نوع من تعويض السياسة النقدية بسياسة مالية. وهنا سؤال كبير يطرح نفسه كيف سيتم تمويل هذه الفروقات؟ ليس أمام الحكومة سوى ثلاث طرق:

  • إما رفع الضريبة، وهو ما لا يتوقع أن تقوم به الحكومة في الوقت الحالي وهي التي تراهن على تشجيع الاستثمار والنمو الاقتصادي.
  • أو تقترض الحكومة من السوق، وهو خيار لا يبدو مريحا لمزاج الحكومة لأن اقتراض الحكومة من الأسواق سيضع ضغطاً صعودياً على معدلات الفائدة التي تكافح الحكومة التركية لخفضها، لكنه ليس مستبعدا نظرا لإعلان الرئيس عن إصدار سندات حكومية عائدها مربوط بمؤشر عائدات المشروعات الحكومية.
  • الخيار الثالث هو طبع العملة، وهنا سؤال يثير الكثير من المخاوف: هل ستطبع الحكومة التركية فئات جديدة من العملة؟ ربما كان هذا هو الخيار الأسهل، لكن نتائجه ستكون كارثية من حيث التسبب في مزيد من هبوط الليرة التركية وتغذية لولب التضخم الحالي.

  فيما يتعلق بالمصدرين وحمايتهم من التقلبات بعقود عملة آجلة. فإنه يبدو لي هذا الاقتراح غريبا، باعتبار المصدرين هم الفئة الأقل تضررا من هبوط الليرة، بل هم المستفيد الأكبر من ذلك. هل يعطي هذا مؤشرا لنية في التحكم في حصيلة المصدرين من العملة الأجنبية أو فرض إتاوة ما غير مباشرة عليهم؟ وإلا ماذا يعني هذا العرض؟ المصدرون مرشحون للاستفادة من انخفاض العملة المحلية والعقود الآجلة التي تثبت سعر الصرف ربما لا تفيدهم هنا. هل الأمر هو حمايتهم من صعود الليرة؟ لا يبدو هذا منطقيا.

   بالنسبة للحفاظ على اقتصاد السوق ونظام الصرف، من المبكر الحكم على ذلك. التأكيد بحد ذاته مؤشر على وجود مخاوف جدية من نية الحكومة تغيير نظام الصرف وفرض القيود على السوق. فما الذي يمنع حكومة تعاكس الكثير من بدهيات اقتصاد السوق أن تفرض المزيد من القيود عليه؟!

  التقلبات الشديدة في الليرة التركية تشير إلى ثابت مهم وخطير في الحالة الاقتصادية التركية، هي حالة عدم الثقة الكبيرة بين الحكومة والأسواق وحالة عدم اليقين الكبيرة التي تسيطر على السوق. وإن لم يتم تقييد آلية اقتصاد السوق بشدة فستعيد فرض منطقها. ومنطقها الأساسي يقول بأن الإجراءات التي وعدت بها الحكومة التركية لن توقف الاتجاه العام الهابط للعملة التركية، بغض النظر عن التقلبات اليومية، إن لم يظهر تغيير حقيقي في السياسة الاقتصادية. لكن كل ذلك لا يعني أن الحياة ستظل مقولبة في إطار النظريات، بل الحقيقة هي أنه بقدر ما توصف النظريات سلوك الأفراد والمجتمعات فإن الأفراد والمجتمعات يتجاوزون تلك النظريات يوميا.