اللغة العربية في الجامعات التركية

2022.08.10 | 07:22 دمشق

اللغة العربية في الجامعات التركية
+A
حجم الخط
-A

لم أكن أظن أن اللغة العربية لغة منطوقة، فقد درستها على أنها موجودة في بطون الكتب فقط، وأن العرب كفوا عن استعمالها إلا في كتبهم. أنا سعيد لأني أراكم تتكلمون اللغة التي كنت أظنها ميتة. بهذه الكلمات تلقاني رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة التي عملت فيها بعد لجوئي إلى تركيا.

لا يمكن قراءة التصور السابق بعيدا من السياق الفكري والثقافي الذي ترعرع فيه، فهو نتاج قرن كامل تقريبا من عمليات التغريب التي كان واحدا من مظاهرها التحول من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني في الكتابة، لأن الحرف العربي مثّل في هذا التصور حضارة آفلة، في حين أن الحرف اللاتيني رمز لحضارة صاعدة ينبغي تقليدها في كل مظاهرها، ولا سيما علاماتها الرمزية كالخط واللباس وغيرهما.

كان التصور التركي عن العالم العربي خلال القرن العشرين سلبيا، إذ تثبتت صورة العرب في المخيال الجمعي التركي عند لحظة انتهاء الدولة العثمانية

المطابقة بين اللغة العربية والماضي الذي يراد الانسلاخ عنه أو تجاوزه أدت إلى نفور شديد من اللغة العربية، فقد عد تعلمها علامة على تخلف الشخص، لأنه يجهد نفسه بدراسة لغة منبتة الصلة بالعصر، لغة دينية ليس فيها إبداع فكري ولا حضاري. هذه الرؤية أسهمت في ابتعاد الطلاب عن دراسة اللغة، إلا من كانت لديه القدرة على تحمل أعباء لا هذه الرؤية فحسب بل تبعاتها أيضا، ولا سيما في ظل فرص العمل التي تكاد تكون معدومة.

عزز من التصور السابق الانقطاع عن العالم العربي، وضعف العلاقات الاقتصادية معه، والاتجاه نحو أوروبا، فقد كان التصور التركي عن العالم العربي خلال القرن العشرين سلبيا، إذ تثبتت صورة العرب في المخيال الجمعي التركي عند لحظة انتهاء الدولة العثمانية، بكل ما فيها من خلافات سياسية وثقافية وغيرها، وإذا تركنا المجال السياسي جانبا، فإن تمثيلات العربي في السياق التركي مستمدة تقريبا من صورة العربي التي عكستها هوليود: شخص يلبس الكلابية والعقال، ويتزوج عددا من النساء، يعيش في بلاد تعوم على بحار من النفط، ولكن دون أن يكون لديه أي إنتاج فكري يذكر، فهو عالة على منجزات الحضارة الغربية. في ظل هذا التصور أو التمثيل، كان من الصعب أن تجد اللغة العربية حضورا في الأوساط الأكاديمية ذات التوجهات العقلانية والتقدمية في الآن نفسه، فانحصرت دراستها على الفئات التقليدية التي تقبل على تعلمها نتيجة الوازع الديني فقط.

لم يكن لهذه الفئات التقليدية أي حضور في رسم سياسات التعليم التركي، ولا سيما مجلس التعليم العالي الذي يعد قلعة من قلاع العلمانية التركية في صورتها الصلبة التي رأينا بعض مظاهرها في منع دخول الفتيات المحجبات إلى الجامعات التركية، وإذا عرفنا أن الإقبال على اللغة العربية ينحصر على نحو أساسي بتلك الفئات التقليدية، صار واضحا حال اللغة العربية في ظل تهميش الفئات التي تتجه إلى تعلمها، والتي تحرمها القوانين العلمانية الصلبة من تحقيق هذه الرغبة.

مع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في بداية الألفية تغير الوضع جذريا، فالحزب الذي يقوم مشروعه على الانفتاح على العالم العربي كان لا بد له من أدوات ناعمة يحقق بها هذا المشروع، لا وسط جمهوره التقليدي فحسب، بل من أجل خلق صورة له أمام الرأي العالم العربي عبر الاحتفاء بما هو مشترك ويشكل نقطة التقاء بين الطرفين، وكان من جملة ذلك العناية بتعليم اللغة العربية. ولهذا سارعت الحكومة إلى افتتاح كليات العلوم الإسلامية أو الإلهيات في كل الجامعات التركية، وفي كل الولايات التركية. وكليات العلوم الإسلامية هي المكان الأكثر اهتماما باللغة العربية، إن استثنينا أقسام اللغة العربية القليلة أصلا.

غير أن هذا الاهتمام الرسمي لم يقابل بنتائج توازي الجهود التي بذلت في هذا السبيل، فالمشكلة التي تواجه تعليم اللغة العربية أن الأتراك عموما يفتقرون إلى الحماسة والرغبة في دراسة اللغات الأخرى، إضافة إلى أن الطلبة المتميزين لا يقبلون على الانتساب إلى كليات العلوم الإسلامية، وأغلبهم من الإناث اللواتي يأتين إلى كليات العلوم الإسلامية، لأنها توفر لهن فرصة التميز في البيئات المحافظة التي جئن منها، على اعتبار أنهن يدرسن العلوم الدينية التي حرمت منها أمهاتهن وجداتهن، دون أن يكون لدى الكثير منهن رغبة الاستزادة من اللغة العربية، إذ ينحصر الاهتمام بقراءة القرآن الكريم، وتعلم المبادئ الأولية مثل بعض الجمل البسيطة في الحياة اليومية، دون أن يتعدى ذلك إلى إتقان اللغة من أجل البحث في الأدب على سبيل المثال، فاللغة العربية في أذهان الجيل التركي هي لغة دينية، ولا يعنيهم كثيرا ما ينتج في هذه اللغة من رواية وقصة وشعر.. إلخ.

وبسبب هذا التوجه، واهتمام الجامعات بالمتون القديمة، تهمل البرامج الأكاديمية المحادثة، إذ يتجه التعليم التركي بسبب ضعف الأساتذة في المحادثة والاستماع إلى أسهل الطرق، أعني تعليم النحو، ولهذا يقبل الطلبة على دراسة المتون النحوية التي تضم الكثير من الأساليب المهجورة، لا لشيء إلا لأنها أقل صعوبة قياسا بالمهارات الأخرى.

وفرت كليات العلوم الإسلامية فرص عمل لمئات الأكاديميين العرب، ولا سيما الأكاديميين ورجال الدين السوريين، فقد استقبلت أعدادا كثيرة منهم. وبغض النظر عن المستوى العلمي المتفاوت لهؤلاء، فإن ما تطلبه الجامعات منهم لا يتعدى تدريس المبادئ الأساسية للغة العربية، وتكريس حضورها في الفضاء الأكاديمي، الأمر الذي سمح لعدد متزايد من الأكاديميين الأتراك بالإفادة من وجود هؤلاء الأساتذة ورجال الدين، بحيث صارت اللغة العربية لغة منطوقة ولم تعد لغة كتب كما كان الاعتقاد سابقا حتى لدى المهتمين بها ودارسيها.

تعليم اللغة العربية في تركيا سيواجه الكثير من العوائق في السنوات القادمة، ولا سيما في حالة وصول أحزاب المعارضة إلى الحكم

بجانب هذه الصورة المشرقة طفت مظاهر سلبية أخرى. فمع تزايد الحضور العربي في تركيا، بعد موجات اللاجئين والمهاجرين، ازدادت أعداد الطلبة العرب في الجامعات التركية، ولا سيما السوريين على وجه الخصوص، فافتتحت كثير من الجامعات برامج ماجستير ودكتوراه لهؤلاء الطلبة لإكمال دراساتهم العليا في اللغة العربية والعلوم الدينية في تركيا، وأغلب هؤلاء الطلبة انتسبوا إلى أقسام اللغة العربية وكليات العلوم الإسلامية يحدوهم الأمل بإيجاد فرص عمل بعد الحصول على الدرجة العلمية، أو رغبة في حمل درجة علمية جلبا للوجاهة الاجتماعية، دون أن يكون لدى حملتها أدنى المعايير العلمية والبحثية، ودون أن يكون لديهم هم معرفي أو بحثي يدفعهم إلى اكتساب الدرجة. بفعل العلاقات التي كونها الطلبة مع الأساتذة الأتراك، ورغبة هؤلاء بالتباهي أو زيادة النقاط العلمية عبر ادعاء القدرة على الإشراف على رسائل مكتوبة باللغة العربية، قبل الأساتذة الأتراك من الطلبة العرب أن يكتبوا رسائلهم بالعربية. وهؤلاء الطلبة هم في أغلبيتهم الساحقة عجزوا أصلا عن إكمال دراساتهم العليا في بلدانهم، لأن معدلاتهم المنخفضة لا تجيز لهم الالتحاق بالدراسات العليا، وكان من نتيجة ذلك أطروحات تفتقد إلى أدنى المعايير المنهجية في البحث العلمي، ساهم في انخفاض مستواها ضعف الطلبة العلمي، وعجز الأساتذة الأتراك عن متابعة ما يكتبه الطلبة.

في ظل ارتباط تعلم اللغة العربية بالتوجهات السياسية، وعدم الفصل بين ما هو أكاديمي من جهة وما هو سياسي من جهة ثانية، فإن تعليم اللغة العربية في تركيا سيواجه الكثير من العوائق في السنوات القادمة، ولا سيما في حالة وصول أحزاب المعارضة إلى الحكم، يضاف إلى ذلك تراجع إقبال الطلبة على كليات العلوم الإسلامية نظرا لكثرة الخريجين وقلة فرص التوظيف. وفي وسط هذه الضبابية التي تسم مشهد تعليم اللغة في الجامعات التركية، فإن العربية تستمر في الحضور المتزايد في الفضاء العام التركي، في الأسواق والأمكنة التاريخية ووسائل النقل، على الرغم من كل حملات التحريض التي تقف أمام انتشارها.